القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُنْثَىَ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن جهل هؤلاء المشركين ، وخُبث فعلهم ، وقبح فِرْيتهم على ربهم ، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبّرهم وأنعم عليهم ، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر ، واستحقّ عليهم الحمد ، البَنَاتِ ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه ، نزّه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات ، فلم يرضوا بجهلهم ، إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه . ولا ينبغي أن يكون له من الولد ، أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ، ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم . وفي «ما » التي في قوله : " ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ " ، وجهان من العربية : النصب عطفا لها على «البنات » ، فيكون معنى الكلام إذا أريد ذلك : ويجعلون لله البنات ولهم البنين الذين يشتهون ، فتكون «ما » للبنين ، والرفع على أن الكلام مبتدأ من قوله : " ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ " فيكون معنى الكلام : ويجعلون لله البنات ولهم البنون .
وقوله : { وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بالأُنْثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } ، يقول : وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات ، بولادة ما يضيفه إليه من ذلك له ، ظلّ وجهه مسودّا من كراهته له ، وَهُوَ كَظِيمٌ ، يقول : قد كَظَم الحزنَ ، وامتلأ غمّا بولادته له ، فهو لا يظهر ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ويَجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ } ، ثم قال : { وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بالأُنثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ . . . إلى آخر الاَية ، يقول : يجعلون لله البنات ، ترضونهنّ لي ولا ترضونهنّ لأنفسكم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون ، أو دسها في التراب وهي حية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا بُشّرَ أحَدهُمْ بالأُنْثى ظَلّ وَجْهَهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ وهذا صنيع مشركي العرب ، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له ، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه ، ولعمري ما يدري أنه خير ، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام . وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه ، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَهُوَ كَظِيمٌ قال : حزين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَهُوَ كَظِيمٌ قال : الكظيم : الكميد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال يعنيهم: {ويجعلون}، يعني: ويصفون {لله البنات}، حين زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى، {سبحانه}، نزه نفسه عن قولهم، ثم قال عز وجل: {ولهم ما يشتهون}، من البنين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن جهل هؤلاء المشركين وخُبث فعلهم وقبح فِرْيتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبّرهم وأنعم عليهم، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر واستحقّ عليهم الحمد، البَنَاتِ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه، نزّه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم، إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه. ولا ينبغي أن يكون له من الولد، أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم، ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء في استحقاق الذمِّ، كلُّ مَنْ آثر حَظَّ نَفْسِه على حقِّ مولاه... ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه، ويتصفون به من كراهةِ أَنْ تُولَد لهم الإناثُ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تعديد لقبح قول الكفار: الملائكة بنات الله، ورد عليهم من وجهين: أحدهما: نسبة النسل إلى الله، تعالى عن ذلك. والآخر: أنهم نسبوا من النسل... المكروه عندهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم، إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك؛ بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه، وغناه عنه، على وجه التوالد المستحيل عليه، مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {ويجعلون لله}، أي: الذي لا معلوم على الحقيقة سواه، لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات}، فلا أعجب منهم، حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك، معجباً من وقوعه من عاقل، بقوله تعالى: {سبحانه}. ولما ذكر ما جعلوا له، مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم، مع لزوم الحاجة والضعف، فقال: {ولهم ما يشتهون}، من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها. فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة، سواء ظهرت أو كمنت. وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن لله بنات -هن الملائكة- على حين أنهم كانوا يكرهون لأنفسهم ولادة البنات! فالبنات لله أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور!. وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة. ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات. إذ البنات لا يقاتلن ولا يكسبن؛ وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار؛ أو يعشن كلا على أهليهن فيجلبن الفقر...
والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله. إذ الرزق بيد الله يرزق الجميع؛ ولا يصيب أحد إلا ما كتب له؛ ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على الله، والأنثى -من حيث إنسانيتها- صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات، وهي نعمة النّسل، كما أشار إليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية...
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكرُ ضرب شنيع من ضروب كفرهم. وهو افتراؤهم: أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ، كما دل عليه قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً} [سورة الصافات: 158]...
وإنا قدم {سبحانه} على قوله: {ولهم ما يشتهون} ليكون نصّاً في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، لأن ذلك زيادة في التّفظيع، فقوله: {ولهم ما يشتهون} جملة في موضع الحال. وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الأوهام إذا كانت هي مصدر علم طائفة من الناس فلا تعجب، والأمثال على ذلك واقعة بين أيدينا في هذا الزمان ومن شأن من تحكمه الأوهام أن يتخيل ثم يظن ثم يتوهم ثم يعتقد، كان العرب يعرفون الملائكة، ويعرفون الله وإنه خالق كل شيء، وأنه المستغاث لكل مستغيث، وأنه الملجأ في الشديد ولكن خلطوا بذلك أوهاما كثيرة أفسدت تفكيرهم، فأشركوا الأوثان مع الله تعالى، ومن ذلك أنهم توهموا أن الملائكة إناث لا ذكور، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله تعالى، ثم ذهب بهم فرط أوهامهم إلى أن كان منهم من عبدها؛ ولذا قال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه وله ما يشتهون (57)}، أي أنهم جعلوا لله البنات – تنزه وتقدس عن ذلك – ولهم ما يشتهون، وهم الذكور، ومعنى يشتهون يختارون راغبين ملحفين في الدعوة حتى كأنهم شهوة يشتهونها؛ لأنهم يرونهم امتدادا لوجودهم، ولأنهم يرون فيهم النصرة في الحرب؛ ولذا كان الرجل يكون في قوة ببنيه ويكون أعز نفرا... هكذا تدرج بهم الوهم من زعم أن لله ولدا، وإن هذا الولد من الإناث اللائي لا يرغبن فيهم، ثم استرسل بهم الوهم حتى كان منهم من عبد الملائكة، وهم طائفة من الصائبة كانت تعبد الأرواح...