تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } أي : ليس فيها موت بالكلية ، ولو كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة الأولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب مطلوب ، { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

وقوله : لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى . يقول تعالى ذكره : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا .

وكان بعض أهل العربية يوجه «إلاّ » في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله تعالى ذكره : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ، لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره . وإذا كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت بقوله : إلاّ المَوْتَةَ الأُولى موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ، لأن الله عزّ وجلّ قد أمن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع «إلا » في موضع «بعد » لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً بعد كلام الرجل الذي عند عمرو . وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو ، فبعد ، وإلا : متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ، لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب ، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب :

إذا لَسَعَتْهُ الدّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها *** وَخالَفَها فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ

فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان ، وإنما أدرك استدلالاً أو خبرا ، كما قال الشاعر :

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بألْفَيْ مُدَجّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفارِسِيّ المُسَرّدِ

بمعنى : أيقنوا بألفي مدجّج واعلموا ، فوضع الظنّ موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الاخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه ، فكذلك قوله : لا يَذُوقُون فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى وضعت «إلا » في موضع «بعد » لما نصف من تقارب معنى «إلا » ، و«بعد » في هذا الموضع ، وكذلك : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت «إلا » في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسا على من أراد علم معناها منها .

/د56