تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

ثم سجل تعالى على ضلالهم البليغ بأن سلبهم العقول والأسماع وشبههم في ضلالهم بالأنعام السائمة التي لا تسمع إلا دعاء ونداء ، صم بكم عمي فهم لا يعقلون بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام يهديها راعيها فتهتدي وتعرف طريق هلاكها فتجتنبه وهي أيضا أسلم عاقبة من هؤلاء ، فتبين بهذا أن الرامي للرسول بالضلال أحق بهذا الوصف وأن كل حيوان بهيم فهو أهدى منه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

ثم أضاف - سبحانه - إلى توبيخهم السابق توبيخا أشد وأنكى فقال - تعالى - : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ . . . } .

و " أم " هنا : هي المنقطعة ، وهى تجمع فى معناها بين الإضراب الانتقالى ، والاستهفام الإنكارى .

أى : بل أتحسب أن أكثر هؤلاء الكافرين يسمعون ما ترشدهم إليه سماع تدبر وتعقل ، أو يعقلون ما تأمرهم به أو تنههم عنه بافنتاح بصيرة ، وباستعداد لقبول الحق . .

كلا إنهم ليسوا كذلك ، لاستيلاء الجحود والحسد على قلوبهم .

وقال - سبحانه - { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ . . . } لأن هناك قلة منهم كانت تعرف الحق معرفة حقيقية ، ولكن المكابرة والمعاندة ومتابعة الهوى . . . حالت بينها وبين الدخول فيه ، واتباع ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم .

وقوله - سبحانه - : { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } ذم لهم على عدم انتفاعهم بالهداية التى أرسلها الله - تعالى - إليهم .

أى : هؤلاء المشركون ليسوا إلى كالأنعام فى عدم الانتفاع بما يقرع قلوبهم وأسماعهم من توجيهات حكيمة ، بل هم أضل سبيلا من الأنعام : لأن الأنعام تناقد لصاحبها الذى يحسن إليها ، أما هؤلاء فقد قابلوا نعم الله بالكفر والجحود .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى ذكر الأكثر ؟ قلت : كان فيهم من لا يصده عن الإسلام إلى داء واحد ، وهو حب الرياسة ، وكفى به داء عضالا .

فإن قلت : كيف جُعِلوا أضل من الأنعام ؟ قلت : لأن الأنعام تناقد لأربابها التى تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسىء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذى هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذى هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذى هو أشد المضار والمهالك . .

وهكذا نرى الآيات الكريمة تصف هؤلاء المستهزئين برسولهم صلى الله عليه وسلم بأوصاف تهبط بهم عن درجة الأنعام ، وتتوعدهم بما يستحقونه من عذاب مهين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج ، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى : { وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذاب مَن أضلّ سبيلاً } [ الفرقان : 42 ] ، ف { أم } منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها . والتقدير : أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون .

والمراد من نفي { أن أكثرهم يسمعون } نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه . وهذا كقوله تعالى { ولا تُسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولَّوْا مدبرين } [ النمل : 80 ] .

وعطف { أو يعقلون } على { يسمعون } لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى : { قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101 ] .

وإنما نُفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم ، لأن هذا حال دهمائهم ومقلِّديهم ، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأَنِفوا من أن يعودوا أتباعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مِثل عمار ، وبلال .

وجملة { إن هم إلا كالأنعام } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالاً عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم ، فكان تشبيههم بالأنعام تبييناً للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها ، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب :

فإن تَفُق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير { يسمعون } .

وانتُقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلاً من الأنعام . وضَلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رُعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئاً من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا كقوله تعالى { فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لَمَا يتفجر منه الأنهار } [ البقرة : 74 ] الآية .