( 1-7 ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
إلى آخر القصة . هذه السورة تسمى { سورة بني النضير } وهم طائفة كبيرة من اليهود في جانب المدينة ، وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وهاجر إلى المدينة ، كفروا به في جملة من كفر من اليهود ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هادن سائر طوائف اليهود الذين هم جيرانه في المدينة ، فلما كان بعد [ وقعة ] بدر بستة أشهر أو نحوها ، خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهم عمرو بن أمية الضمري ، فقالوا : نفعل يا أبا القاسم ، اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك ، فخلا بعضهم ببعض ، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم ، فتآمروا بقتله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها ؟ فقال أشقاهم عمرو بن جحاش : أنا ، فقال لهم سلام بن مشكم : لا تفعلوا ، فوالله ليخبرن بما هممتم به ، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه ، وجاء الوحي على الفور إليه من ربه ، بما هموا به ، فنهض مسرعا ، فتوجه إلى المدينة ، ولحقه أصحابه ، فقالوا : نهضت ولم نشعر بك ، فأخبرهم بما همت يهود به .
وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه " ، فأقاموا أياما يتجهزون ، وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أبي [ بن سلول ] : " أن لا تخرجوا من دياركم ، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون دونكم ، وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان " .
وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قال له ، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنا لا نخرج من ديارنا ، فاصنع ما بدا لك .
فكبر رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه ، ونهضوا إليهم ، وعلي بن أبي طالب يحمل اللواء .
فأقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة ، واعتزلتهم قريظة ، وخانهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع نخلهم وحرق . فأرسلوا إليه : نحن نخرج من المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم ، وذراريهم ، وأن لهم ما حملت إبلهم إلا السلاح ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الأموال والسلاح .
وكانت بنو النضير ، خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنوائبه ومصالح المسلمين ، ولم يخمسها ، لأن الله أفاءها عليه ، ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، وأجلاهم إلى خيبر وفيهم حيي بن أخطب كبيرهم ، واستولى على أرضهم وديارهم ، وقبض السلاح ، فوجد من السلاح خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا ، هذا حاصل قصتهم كما ذكرها أهل السير .
فافتتح تعالى هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض تسبح بحمد ربها ، وتنزهه عما لا يليق بجلاله ، وتعبده وتخضع لجلاله{[1025]} لأنه العزيز الذي قد قهر كل شيء ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يستعصي عليه مستعصي{[1026]} الحكيم في خلقه وأمره ، فلا يخلق شيئا عبثا ، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه ، ولا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته .
1- سورة " الحشر " من السور المدنية الخالصة ، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، وسماها ابن عباس بسورة " بني النضير " فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر . قال : " سورة بني النضير " ولعل ابن عباس –رضي الله عنهما- سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بني النضير .
2- وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وكان نزولها بعد سورة " البينة " وقبل سورة " النصر " أي : أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول .
أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة التاسعة والخمسون .
3- وقد افتتحت سورة " الحشر " بتنزيه الله –تعالى- عما لا يليق به ، ثم تحدثت عن غزوة " بني النضير " ، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين . . قال –تعالى- : { وهو الذين أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ، ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار . . } .
4- ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بني النضير ، وعن حكمة الله –تعالى- في إرشاده النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا التقسيم ، فقال –سبحانه- : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ، وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، واتقوا الله إن الله شديد العقاب } .
5- وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم ، كما أتت على الأنصار لسخائهم ، وطهارة قلوبهم . . بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجب من حال المنافقين ، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين ، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة ، ووعودهم الخادعة . . فقال –تعالى- : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ، لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون ] .
6- ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين ، أمرتهم فيه بتقوى الله ، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر الله ، الذين تركوا ما أمرهم به –سبحانه- ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا . .
وختمت بذكر جانب من أسماء الله –تعالى- وصفاته ، فقال –تعالى- : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور ، له الأسماء الحسنى ، يسبح له ما في السموات والأرض ، وهو العزيز الحكيم } .
7- وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها الله –تعالى- في تقسيم الغنائم ، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار ، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود . .
ومع جانب من أسماء الله –تعالى- وصفاته ، التي تليق به –عز وجل- .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت سورة " الحشر " بالثناء على الله - تعالى - وبتنزيهه عن كل مالا يليق بذاته الجليلة ، فقال - عز وجل - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .
وأصل التسبيح لغة : الإبعاد عن السوء . وشرعا : تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله .
والذى يتدبر القرآن الكريم ، يجد أن الله - تعالى - قد ذكر فيه أن كل شىء فى هذا الكون يسبح بحمده - تعالى - ، كما فى قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } كما ذكر - سبحانه - أن الملائكة تسبح له ، كما فى قوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ . . . } وكذلك الرعد ، كما فى قوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ . . } وكذلك الجبال والطير قال - تعالى - : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } أن الرأى الذى تطمئن إليه النفس ، أن التسيبح حقيقى ، ولكن بلغة لا يعملها إلا الله - تعالى - .
والمعنى : سبح لله - تعالى - ونزهه عن كل ما لا يليق به ، جميع ما فىالسموات وجميع ما فى الأرض من كائنات ومخلوقات . وهو - عز وجل - { العزيز } الذى لا يغلبه غالب { العزيز الحكيم } فى أقواله وأفعاله .
وقد افتتحت بعض السور - كسورة الحديد والحشر والصف - بالفعل الماضى ، لإفادة الثبوت والتأكيد ، وأن التسبيح قد تم فعلا .
وافتتحت بعض السور ، كسورة الجمع والتغابن - بالفعل المضارع { يسبح } لإفادة تجدد هذا التسبيح لى كل وقت ، وحدوثه فى كل لحظة .
اشتهرت تسمية هذه السورة { سورة الحشر } . وبهذا الاسم دعاها النبي صلى الله عليه وسلم .
روي الترمذي عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح ثلاث مراد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر الحديث ، أي الآيات التي أولها { هو الله لا أله إلا هو عالم الغيب والشهادة } إلى آخر السورة .
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لأن عباس سورة الحشر قال { قل بني النضير } ، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور . وأبن عباس يسميها سورة بني النضير . ولعله لم يبلغه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياها ( سورة الحشر ) لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها سورة بني النضير } لقوله أن جبير قل بني النضير .
وتأول أبن حجر كلام أبن عباس على أنه كره تسميتها ب( الحشر ) لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة . وهذا تأويل بعيد . وأحسن من هذا أن أبن عباس أراد أن لها اسمين ، وأن الأمر في قوله : قل ، للتخيير .
فأما وجه تسميتها ( الحشر ) فلوقوع لفظ { الحشر } فيها . ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة . فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر ، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة .
وأما وجه تسميتها سورة بني النضير فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها .
وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد . نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر .
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة .
وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين .
وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه . ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم ، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها .
وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله ، وكون في السماوات والأرض ملكه ، وأنه الغالب المدبر .
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة . وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه .
وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين .
وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين .
وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله ، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار .
ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين .
وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله .
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشق على أصحاب الأموال .
والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه يسبح له ما في السماوات والأرض تزكيه لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين .
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكيرٌ للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر على ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قال سبحوا لله كما سَبح له ما في السماوات والأرض .
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابهم لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها .
والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد ( 1 ) ، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها : { ما في السماوات والأرض } وها هنا قال : { ما في السموات وما في الأرض } لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو { ما } الموصولة التي صلتها قوله : { في السماوات والأرض } . وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمنة الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم ، وهي { ما } الموصولة الثانية التي صلتها { في الأرض } ، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها . وأوثر الأخبار عن { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } بفعل الماضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير .