وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق . ومن قولهم : إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه ، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره ، فقتلوا غيره وصلبوه .
وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه ، وبصدهم الناس عن سبيل الله ، فصدوهم عن الحق ، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي . وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه .
فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل ، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه ، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس ، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها .
وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم ، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها ، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع ، بل أشار إليها ، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها .
ثم سجل عليهم بعد ذلك رذيلة سابعة ورد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد فى كل زمان ومكان فقال : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } والمسيح : لقلب تشريف وتكريم لعيسى - عليه السلام - قيل : لقب بذلك لأنه ممسوح من كل خلق ذميم . وقيل : لأنه مسح بالبركة كما فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } وقيل لأن الله مسح عنه النذوب .
أى : وبسبب قولهم على سبيل التبجح والتفاخر إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، لعنهم الله وغضب عليهم ، كما لعنهم وغضب عليهم - أيضا - بسبب جرائمهم السابقة .
وهذا القول الذى صدر عنهم هو فى ذاته جريمة ؛ لأنهم قالوه على سبيل التبجح والتفاخر لقتلهم - فى زعمهم - نبيا من أنبياء الله ، ورسولا من أولى العزم من الرسل .
وقولهم هذا وإن كان يخالف الحقيقة والواقع ، إلا أنه يدل على أنهم أرادوا قتله ففعلا ، وسلكوا كل السبل لبلوغ غايتهم الدنيئة ، فدسوا عليه عند الرومان ، ووصفوه بالدجل والشعوذة ، وحاولوا أن يسلموه لأعدائه ليصلبوه ، بل زعموا أنهم أسلموا فعلا لهم ، ولكن الله - تعالى - خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وحال بينهم وبين ما يشتهون ، حيث نجى عيسى - عليه السلام - من شرورهم ، ورفعه إليه دون أن يمسه سوء منهم .
ولا شك أن صدر عن اليهود فى حق عيسى - عليه السلام - من محاولة قتله ، واتخاذ كل وسيلة لتنفيذ غايتهم ، ثم تفاخرهم بأنهم قتلوه وصلبوه ، لا شك أن كل ذلك يعتبر من أكبر الجرائم ؛ لأنه من المقرر فى الشرائع والقوانين أن من شرع فى ارتكاب من الجرائم واتخذ كل الوسائل لتنفيذها ، ولكنها لم تتم لأمر خارج عن إرادته ، فإنه يعد من المجرمين الذين يستحقون العقاب الشديد .
واليهود قد اتخذوا كافة الطرق لقتل عيسى - عليه السلام - كما بينا - ، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون لأسباب خارجة عن طاقتهم . ومنعنى هذا أنه لو بقيت لهم أية وسيلة لإِتمام جريمتهم النكراء لما تقاعسوا عنها ، ولأسرعوا فى تنفيذها فهم يستحقون عقوبة المجرم فى تفكيره ، وفى نيته ، وفى شروعه الأثيم ، لارتكاب ما نهى الله عنه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كانوا كافرين بعيسى - عليه السلام - أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، فيكف قالوا : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } ؟
قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح فى الحكاية عنهم ، رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به ، وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً }
وقوله - تعالى - { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } رد على مزاعمهم الكاذبة ، وأقاويلهم الباطلة التى تفاخروا بها بأنهم قتلوا عيسى - عليهم السلام - . أى : إن ما قاله اليهود متفاخرين به ، وهو زعمهم أنه قتلوا عيسى - عليه السلام - ، هو من باب أكاذيبهم المعروفة عنهم ؛ فإنهم ما قتلوه ، وما صلبوه ولكن الحق أنهم قتلوا رجلا آخر يشبه عيسى - عليه السلام - فى الخلقة فظنوه إياه وقتلوه وصلبوه ، ثم قالوا . إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله .
قال الفخر الرازى : قوله : { شُبِّهَ } مسند إلى ماذا ؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبه به وليس بمشبه . وإن أسندته إلى المقتول لم يجر له ذكر ؟ والجواب من وجهين :
الأول : أنه مسند إلى الجار والمجرور .
وهو كقولك : خيل إليه . كأنه قيل : ولكن قوع لهم الشبه . الثانى : أن يسند إلى ضمير المقتول ، لأن قوله { وَمَا قَتَلُوهُ } يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكورا بهذا الطريق فحسن إسناد { شُبِّهَ } إليه .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } زعم أكثر اليهود أنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، فأكذبهم الله - تعالى - فى ذلك وقال : { ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } . أى : شبه لهم المقتول بأن ألقى عليه شبه المسيح فلما دخلوا عليه ليقتلوه - أى ليقتلوا المسيح - وجدوا الشبيه فقتلوه وصلبوه ، يظنونه المسيح وما هو فى الواقع ، إذ قد رفع الله عيسى إلى السماء ، ونجاه من شر الأعداء .
وقيل المعنى : ولكن التبس عليهم الأمر حيث ظنوا المقتول عيسى كما أوهم بذلك أحبارهم .
هذا ، وللمفسرين فى بيان كيفية التشبيه لهم وجوه من أهمها اثنان :
الأول : أن الله - تعالى - ألقى شبه عيسى - عليه السلام - على أحد الذين خانوه ودبروا قتله وهو ( يهوذا الإِسخربوطى ) الذى كان غينا وجاسوسا على المسيح ، والذى أرشد الجند الذين أرادوا قتله إلى مكانه ، وقال لهم : من أقبله أمامكم يكون هو المسيح ، فاقبضوا عليه لتقتلوه ، فدخل بين عيسى ليدلهم عليه ليقتلوه فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى .
وهذا الوجه قد جاء مفصلا فى بعض الأناجيل وأشار إليه الآلوسى بقوله : كان رجل من الحواريين ينافس عيسى - عليه السلام - فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، وأخذ على ذلك ثلاثين درهما ، فدخل بيت عيسى - عليه السلام - فرفع الله عيسى ، وألقى شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فتقوله ، وهم يظنون أنه عيسى .
الثانى : أن الله - تعالى - القى شبه المسيح على أحد تلاميذه المخلصين حينا أجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه سيرفعه إليه ، فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ؟ فقال رجل منهم أنا . فألقى الله صورة عيسى عليه ، فقتل ذلك الرجل وصلب .
وقد أطالب الإِمام ابن كثير فى ذكر الروايات التى تؤيد هذا الوجه ، ومنها قوله : عن ابن عباس قال : لما أراد الله - تعالى - أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه وفى البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين فقال لهم إن منكم من يكفر بعدى اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن بى .
قال : ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى ، ويكون معى فى درجتى ؟
فقال شاب من أحدثهم سنا . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقال ذلك الشاب . فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم . فقام ذلك الشاب . فقال : أنا .
فقال له عيسى ، هو أنت ذاك . فألقى عليه شبه عيسى . ورفع عيسى من روزنة فى البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتى عشرة مرة بعد أن آمن . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس ، ورواه النسائى عن أبى كريب عن أبى معاوية ، وقال غير واحد من السلف : أنه قال لهم . أيكم يلقى عليه شبهى فيقتل مكانى وهو رفيقى فى الجن . . .
والذى يجب اعتقاده بنص القرآن الكريم أن عيسى - عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ، وإنما رفعه الله إليهم ، ونجاه من مكر أعدائه ، أما الذى قتل وصلب فهو شخص سواه .
ثم قال - تعالى - { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } . أى : وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى شك دائم من حقيقة أمره . أى : فى حيرة وتردد ، ليس عندهم علم ثابت قطعى فى شأنه ، أو فى شأن قتله ، ولكنهم لا يتبعون فيما يقولونه عنه إلا الظن الذى لا تثبت به حجة . ولا يقوم عليه برهان .
ولقد اختلف أهل الكتاب فى شأن عيسى اختلافا كبيراً . فمنهم من زعم أنه ابن الله . وادعى أن فى عيسى عنصرا إليها مع العنصر الإِنسانى . وأن الذى ولدته مريم هو العنصر الإِنسانى . ثم أفاض عليه بعد ذلك العنصر الإِلهى .
ومنهم من قال : إن مريم ولدت العنصرين معا .
ولقد اختلفوا فى أمر قتله . فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه قتلا حقيقا ، وتردد آخرون فقالوا : إن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا . وإن كان المقتول صاحبنا فأين عيسى ؟
وقال آخرون : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا .
إلى غير ذلك من خلاقاتهم التى لا تنتهى حول حقيقة عيسى وحول مسألة قتله وصلبه .
فالمراد بالموصول فى قوله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا } ما يعم اليهود والنصارى جميعا . والضمير فى قوله ( فيه ) يعود إلى عيسى - عليه السلام - .
وقوله { مِّنْهُ } جار مجرور متعلق بمحذوف صفة الشك .
قال الآلوسى : وأصل الشك أن يستعمل فى تساوى الطرفين ، وقد يستعمل فى لازم معناه وهو التردد مطلقا ، وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا . ولذا أكده بنفى العلم الشامل لذلك أيضا بقوله - سبحانه - : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } .
وقوله { إِلاَّ اتباع الظن } الراجح أن الاستثناء فيه منقطع ، أى مالهم به من علم لكنهم يتبعون الظن .
وقيل : هو متصل ، لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك أن لا يترجح أحد الجائزين .
ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما فيكف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم إمارة ظنوا .
ولم يرتض هذا الجواب صاحب الانتصاف فقال : وليس فى هذا الجواب شفاء الغليل . والظاهر - والله أعلم - أنهم كانوا أغلب أحوالهم الشك فى أمرهم والتردد ، فجاءت العبارة الأولى على ما يغلب من حالهم ، ثم كانوا لا يخلون من ظن فى بعض الأحوال وعنده يقفون لا يرتفعون إلى العلم فيه البتة . وكيف يعلم الشئ على ما خلاف ما هو به ؟ فجاءت العبارة الثانية على حالهم النادرة فى الظن نافية عنهم ما يترقى عن الظن .
وقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } تأكيد لنجاة عيسى مما يزعمونه من قتلهم له ، وبيان لما أكرمه الله به من رعاية وتشريف .
واليقين : هو العلم الجازم الذى لا يحمتل الشك والضمير فى قوله { وَمَا قَتَلُوهُ } لعيسى .
وقوله { يَقِيناً } ذكر النحاة فى إعرابه وجوها من أشهرها : أنه نعت لمصدر محذوف مأخوذ من لفظ قتلوه : أى : ما قتلوه قتلا يقينا ، أى متيقنين معه من أن المقتول عيسى عليه السلام - وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذى اعتراهم .
أو هو حال مؤكدة لنفى القتل . أى انتفى قتلهم إياه إنتفاء يقينا . فاليقين منصب على النفى . أى : أن : نفى كونه قد قتل أمر متيقن مؤكد مجزوم به ، وليس ظنا كظنكم أو وهما كوهمكم يا معشر أهل الكتاب .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك بقوله : قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أى : وما قتلوه قتلا يقينا . أو ما قتلوه متيقنين كما ادعوا ذلك فى قولهم { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح } أو يجعل { يَقِيناً } تأكيدا لقوله : { وَمَا قَتَلُوهُ } كقولك : ما قتلوه حقا . أى حق انتفاء قتله حقا .
والمعنى : أن اليهود قد زعموا أنهم قتلوا عيسى - عليه السلام - وزعمهم هذا أبعد ما يكون عن الحق والصواب ، لأن الحق المتيقن فى هذه المسألة أنهم لم يقتلوه ، فقد نجاه الله من مكرهم ، ورفع عيسى إليه ، وكان الله { عَزِيزاً } . أى منيع الجناب ، لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه وحماه . { حَكِيماً } فى جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور .
هذا ، وجمهور العلماء على أن الله - تعالى - رفع عيسى إليه بجسده وروحه لا بروحه فقط قال بعض العلماء : والجمهور على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء . والخصوصية له - عليه السلام - هى فى رفعه بجسده وبقائه فيها إلى الأمر المقدر له .
وفى بعضهم الرفع فى قوله - تعالى - { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } بأنه رفع بالروح فقط .
وقد بسطنا القول فى هذه المسألة عند تفسيرنا لسورة آل عمران فى قوله تعالى - : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }
وقوله تعالى { بل رفعه الله إليه } يعني إلى سمائه وكرامته ، وعيسى عليه السلام حي في السماء الثانية على ما تضمن حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ذكره البخاري في حديث المعراج{[4367]} ، وذكره غيره ، وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل الدجالة ، وليملأ الأرض عدلاً ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما يموت البشر .
لذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله : { بل رفعه الله إليه } أي فلم يظفروا به . والرفع : إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات ، و ( إلى ) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف ، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى .
وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع ، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى عليه السّلام بقي حيّاً أوْ أماته الله ، عند قوله تعالى : { إنّي متوفّيك ورافِعك إليّ } في سورة آل عمران ( 55 ) .
والتذييل بقوله : { وكان الله عزيزاً حكيماً } ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه ، ولمّا كان حكيماً فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين ، وتبصرة للمؤمنين ، وعقوبة ليهوذا الخائن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأكذب الله عز وجل اليهود في قتل عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {بل رفعه الله إليه} إلى السماء حيا {وكان الله عزيزا حكيما}:"عزيزا": منيعا حين منع عيسى من القتل، "حكيما "حين حكم رفعه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إلَيْهِ": بل رفع الله المسيح إليه، يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن الله رفعه إليه، فطهره من الذين كفروا.
"وكانَ اللّهُ عَزِيزا حَكِيما": ولم يزل الله منتقما من أعدائه، كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله: "فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وكُفْرِهِمْ بآياتِ اللّهِ ""حكيما": ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقه في قضائه، يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء من حلول عقوبتي بكم، كما حلّ بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم في تكذيبهم رسلي، وافترائهم على أوليائي.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{بل رفعه الله إليه} أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سوى الله فيه حكم وكان رفعه إلى ذلك الموضع رفعا إليه لأنه رفع عن أن يجري عليه حكم أحد من العباد. {وكان الله عزيزا} في اقتداره على نجاة من يشاء من عباده {حكيما} في تدبيره في النجاة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بل رفعه الله إليه} يعني إلى سمائه وكرامته، وعيسى عليه السلام حي في السماء الثانية على ما تضمن حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى ذكره البخاري في حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل الدجال، وليملأ الأرض عدلاً، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما يموت البشر.
رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية، ونظير هذه الآية قوله في آل عمران {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية. ثم قال تعالى: {وكان الله عزيزا حكيما}. والمراد من العزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السماوات وإن كان كالمتعذر على البشر، لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي، وهو نظير قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} فإن الإسراء وإن كان متعذرا بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وكان الله عزيزا} لا يغلب على ما يريده. {حكيما} فيما دبره لعيسى عليه الصلاة والسلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده {عزيزاً} أي يغلب ولا يغلب {حكيماً} أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم، وأنه قصد الرد عليهم، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم، فرفعه إليه بعزته و حفظه بحكمته، وسوف ينزله ببالغ قدرته، فيردكم عن أهوائكم، ويسفك دماءكم، ويبيد خضراءكم، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكان الله عليم حكيما} فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى عليه السلام من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين وبحكمته جزى كل عامل بعمله، فأحل باليهود ما أحل بهم وسيوفيهم جزاءهم في الآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيمًا)..
ولا يدلي القرآن بتفصيل في هذا الرفع أكان بالجسد والروح في حالة الحياة؟ أم كان بالروح بعد الوفاة؟ ومتى كانت هذه الوفاة وأين. وهم ما قتلوه وما صلبوه وإنما وقع القتل والصلب على من شبه لهم سواه.
لا يدلي القرآن بتفصيل آخر وراء تلك الحقيقة؛ إلا ما ورد في السورة الأخرى من قوله تعالى (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي).. وهذه كتلك لا تعطي تفصيلا عن الوفاة ولا عن طبيعة هذا التوفي وموعده.. ونحن -على طريقتنا في ظلال القرآن- لا نريد أن نخرج عن تلك الظلال؛ ولا أن نضرب في أقاويل وأساطير؛ ليس لدينا من دليل عليها، وليس لنا إليها سبيل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بل رفعه الله إليه} أي فلم يظفروا به. والرفع: إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، و (إلى) إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى...
والتذييل بقوله: {وكان الله عزيزاً حكيماً} ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه، ولمّا كان حكيماً فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفيه وصف الله تعالى الدائم بأنه العزيز الرفيع الجناب الذي لا يلجأ إليه أحد إلا أعزه، وأعلى قدره وحماه كما فعل مع ابن مريم وغيره من أنبيائه عليهم السلام، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.