{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا ( 153 ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ( 154 ) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( 155 ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 )فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 ) } .
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء } والآيات التي بعدها إلى آخر الآية ( 161 ) وما فيها من حملة على اليهود لموافقتهم الجحودية واستطراد إلى مسألة زعم صلب المسيح وعقيدة الصلب والفداء .
عبارة الآية واضحة . وقد حكت الفقرة الأولى من الآية الأولى سؤالا وجهه أهل الكتاب الذين هم يهود على ما جاء صراحة في الآيات التالية ، فيه تحد وتعجيز للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ينزل عليهم كتابا من السماء . ثم احتوت الفقرة الثانية وبقية الآيات حملة عليهم وربطت ما يبدوا منهم من تعجيز وجحود بما بدا من آبائهم قبل ، سواء أفيما كان منهم من تعجيز لموسى عليه السلام وطلبهم أن يريهم الله جهرة أم في اتخاذهم العجل وانحرافهم عن أوامر الله ووصاياه ، رغم ما أخذ منهم من مواثيق وصدر عنهم من عفو في أول الأمر أم في قتلهم الأنبياء بعد موسى أم في موقف الجحود والتكذيب الذي وقفوه من عيسى وبهتهم لأمه وادعائهم أنهم قتلوه ، وانتهت بتقرير ما كان من عقاب الله لهم بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل ؛ حيث عاقبهم الله بتحريم طيبات كانت حلالا لهم بالإضافة إلى العذاب الأليم الأخروي والمعد للكافرين المنحرفين منهم .
وقد روى المفسرون{[701]} أن كعب ابن الأشرف جاء إلى النبي مع جماعة من اليهود أو جماعة من اليهود جاؤوا إلى النبي وقالوا له : إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء موسى بالتوراة وفي رواية فأتنا من السماء بكتاب يخاطبنا بصورة خاصة . وفي رواية فلينزل على فلان وفلان منهم كتب بتصديقك ، فنزلت الآيات بالرد عليهم .
والروايات لم ترد في كتب الصحاح . وهي متسقة مع الفقرة الأولى من الآية الأولى . وتكون بقية الآية والآيات التالية من قبيل الاستطراد وتدعيم الرد . والاتصال قائم في الوقت نفسه بين هذه الآيات والآيات السابقة من حيث إن الآيات السابقة احتوت تقرير كفر الذين يكفرون ببعض أنبياء الله ورسله ، وأن هذه الآيات احتوت بيان موقفهم الجحودي من نبوة محمد وعيسى وأنبياء آخرين لم يكتفوا بتكذيبهم والكفر بهم بل قتلوهم أيضا . وهذا ما يجعلنا نرجح أن الآيات السابقة هي تمهيد لهذه الآيات . وهذا لا يمنع أن تكون هذه وتلك قد نزلت بسبب سؤال اليهود الذي حكته الفقرة الأولى من الآيات .
وجل ما جاء في هذه الآيات من مواقف اليهود القدماء الجحودية والتعجيزية والانحرافية وربطها بمواقف اليهود المماثلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإزاءه قد جاء في سورتي البقرة وآل عمران بتفصيل أوسع . وقد علقنا على ذلك بما يقتضي في سياق تفسير هاتين السورتين ، فلا نرى ضرورة إلى إعادة أو زيادة .
ومن الجديد في الآيات حكاية رمي اليهود مريم بالبهتان العظيم والعبارة تعني رميها بالزنا وقولهم : إنها حبلت بالمسيح سفاحا . وقد ورد ذلك في بعض مدوناتهم القديمة أو في التلمود المؤلف قبل البعثة النبوية ؛ حيث قالوا : إنه ابن جندي روماني اسمه تيريوجوليو{[702]} وواجب المسلم أن ينكر ذلك ، وأن يؤمن أن مريم حبلت بالمسيح بمعجزة ربانية عبر عنها في القرآن بنفخ الله من روحه فيها أو في فرجها بدون مس من رجل كما جاء ذلك في آيات في سورة آل عمران ومريم والأنبياء والتحريم .
ومن الجديد في الآيات كذلك حكاية دعوى اليهود بأنهم قتلوا المسيح . ونفي الآيات قتلهم أو صلبهم إياه وتقريرها أنه شبه لهم ، وأن الله قد رفعه إليه وأن الذين اختلفوا في أمره في شك كبير من ذلك .
وتعليقا على هذه النقطة نقول أولا : إن على المسلم أن يؤمن بهذه الحقائق التي يقررها القرآن ، ولو أن العبارة القرآنية جاءت استطرادية على ما تلهمه روحها ويدل عليه باستمرار سياق الحملة على اليهود وذكر أفعالهم وأخلاقهم بعدها . وثانيا : إن المجادلين النصارى قد يتمحلون فيقولون : إن اليهود ليسوا هم الذين صلبوا وقتلوا المسيح فيكون نفي القرآن حقا بالنسبة لليهود فقط ، وإن الذين فعلوا ذلك الرومان والنفي لا يشملهم وجوابا على هذا التمحل نقول : إن روح العبارة القرآنية قصدت تقرير نفي القتل والصلب مطلقا ، وإن نسبة ذلك إلى اليهود إنما هي في اعتقادنا بسبب كون اليهود كانوا يدعون ذلك ، أو أن ذلك هو الذي كان قائما في الأذهان . وثالثا : إننا نعتقد أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم طوائف من النصارى كانوا يعتقدون بكل ذلك فضلا عن حقائق أخرى قررها القرآن في شأن عيسى عليه السلام امتدادا لما قبلها . وإيمان النصارى الذين كان منهم القسيسون والرهبان بالنبي والقرآن ؛ لأنهم سمعوا ما عرفوا من الحق على ما جاء في آيات سورة المائدة هذه { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون 82 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين 83 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين84 } دليل حاسم على ذلك . وقد ذكر السيد رشيد رضا في سياق تفسيره للآيات التي نحن في صددها أن من الفرق القديمة النصرانية التي كانت تنكر صلب المسيح فرقة السيرنتيين والتاتانوسيين أتباع تاتانوس تلميذ الشهيد يوستينيوس . وقد أورد في سياق ذلك أن فوتيوس قرر أنه قرأ كتابا يسمى رحلة الرسل فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس ، وهم من حواريي المسيح ورسله ، وأن مما قرأه أن المسيح لم يصلب ، ولكن صلب غيره وقد ضحك على صالبيه . ولقد ظهر في القرن الثاني بعد الميلاد راهب نصراني اسمه أيبون فكان مما يقوله { إن المسيح ولد من يوسف والعذراء ولا نعلم متى وكيف قضى أجله ) ونرجح أنه كان هناك كتب قديمة أخرى تقرر هذه الحقيقة مع حقائق عديدة أخرى مما يتسق مع تقريرات القرآن أحرقها رجال الكنيسة . وإذا كانت الأناجيل المعترف بها اليوم تقرر صلب المسيح ، فإن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل كتبت بعد عيسى عليه السلام بزمن ما ، وكترجمة لحياته سمعت من الرواة . ولا يمكن أن يكون ما ذكروه يقينا قاطعا على صحة الصلب . ومع ذلك فهناك إنجيل يعزى إلى الحواري برنابا فلت من الحرق ، وهو ينكر الصلب ، ويقرر جل الحقائق التي يقررها القرآن في عيسى . وإنكار النصارى لهذا الإنجيل لا يثبت بطلان ما فيه بما في ذلك عدم الصلب بطبيعة الحال .
والفريق النصراني الذي ذكرت آيات المائدة إيمانه بالنبي والقرآن نتيجة لما سمعه من الحق الذي يعرفه ليس هو الوحيد الذي آمن بسبب ذلك . فقد ذكرت آيات عديدة مكية ومدنية ذلك عن جماعات عديدة من أهل الكتاب مما انطوى في آيات سورة القصص { 52 55 } والإسراء { 107 108 } والرعد { 35 } والأنعام { 20 و 114 } والعنكبوت { 47 } وغيرها وغيرها . ونعتقد أن هذا هو الذي جعل النصارى في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية والأندلس يقبلون على الإسلام ويدخلون فيه أفواجا حتى دان معظمهم به خلال ردح غير طويل من الزمن .
ولقد روى الطبراني وغيره روايات عديدة عن وهب ابن منبه وغيره من علماء الأحبار من مسلمة اليهود وغيرهم من التابعين في صدد ما كان من مطاردة اليهود لعيسى بقصد القبض عليه وقتله . وفي صدد جملة { ولكن شبه لهم } منها ما ورد في بعض الأناجيل المتداولة اليوم ، ومنها ما لم يرد . ومن هذا أن المسيح جمع الحواريين في بيت فجاء الذين صمموا على القبض عليه فأحاطوا بالبيت ، ثم دخلوا فإذا جميع من في البيت في صورة عيسى فقالوا لهم : لتقرن من هو عيسى حقيقة أو لنقتلنكم ؟ فقال : عيسى من يشتري منكم نفسه وله الجنة فقال أحدهم جرجس : أنا . ثم قال : أنا هو عيسى فأخذوه وصلبوه وقتلوه . ومن ذلك أنهم لما أحاطوا بالبيت قال عيسى ذلك القول ، فقال جرجس : أنا . فقال له : أخرج إليهم ، فخرج فإذا هو على صورة عيسى فأخذوه . ومن ذلك أن يوحنا أو يهوذا الذي رشاه اليهود بثلاثين درهما ليدلهم عليه هم نفسه شبه بعيسى ، فأخذوه وصلبوه . ومن المحتمل أن تكون هذه الروايات وردت في أسفار وقراطيس لم تصل إلينا أو أبيدت وبقي أو أبقي على ما ذكر أن عيسى بالذات صلب وقتل . وعلى كل حال فجميع ما جاء في الآية { 157 } من تقريرات هو الأصدق بدون شك عند المسلمين ، ومن قبيل المساجلة يمكن أن يقال : إن من المأثورات النصرانية القديمة ما يتسق مع ذلك . وهو ما ذكرناه آنفا .
وللسيد رشيد رضا في سياق تفسير هذه الآيات في الجزء السادس من تفسيره بحث مسهب أورد فيه كثير من الشبه والقرائن من الأناجيل المتداولة على عدم صلب السيد المسيح ، وقد شرح عقيدة الصلب عند النصارى ، وما ينطوي فيها من غرائب وعجائب في أصلها وفرعها كما سمعها من بعض دعاتهم في بعض المجامع العامة بقوله : إن آدم لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها ، صار هو وجميع أفراد ذريته خطاة مذنبين ، فكانوا مستحقين للعقاب في الآخرة بذنوبهم وبذنب أبيهم . ولما كان الله تعالى متصفا بالعدل والرحمة معا طرأ عليه سبحانه مشكل منذ عصى آدم ، وهو أنه إذا عاقبه هو وذريته كان ذلك منافيا لرحمته ، وإذا لم يعاقبه كان ذلك منافيا لعدله . فكأنه منذ عصى آدم كان يفكر في وسيلة يجمع بها بين العدل والرحمة ، فلم يهتد إلى ذلك إلا منذ ألفي سنة سبحانه ، وذلك بأن يحل ابنه تعالى الذي هو نفسه في بطن امرأة من ذرية آدم ، ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها فيكون ولدها إنسانا كاملا ، من حيث هو ابنها وإلاها كاملا من حيث هو ابن الله الذي هو الله نفسه ، ويكون معصوما من جميع معاصي بني آدم ، ثم بعد أن يعيش زمنا معهم يأكل ويشرب مما يأكلون ويشربون ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون يسخر أعداء لقتله أفظع قتلة ، وهي قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلاهي فيحتمل اللعن والصلب لأجل فداء البشر وخلاصهم من خطاياهم كما قال يوحنا في رسالته الأولى ، وهو كفارة لخطايانا ليس لخطايانا فقط ، بل لخطايا كل العالم أيضا { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } ( الصافات : 180 } .
وقد عقب السيد رشيد رضا على ذلك بردود عديدة قوية الإفحام من الناحية العقلية والناحية الجدلية والناحية الفعلية . ثم أورد مقتبسات من كتب عديدة لإثبات أن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد جدا في البلاد الهندية والوثنية ، فنكتفي من ذلك بهذه اللمعة ، ونحيل من أراد التوسع إلى الجزء المذكور من تفسير هذا الإمام الجليل{[703]} .
وفي الأناجيل الأربعة التي يعترف بها النصارى عبارات وردت على لسان عيسى عليه السلام في سياق حكاية ما وقع عليه من أذى وصلب واحتضار وإسلام روح تعبر عن جزعه . وفيها استغاثة لله بأن يصرف عنه ذلك ، وفيها هتاف له بمعنى العقاب عن تركه إياه ليفعلوا به ما فعلوه مما فيه تناقض مع العقيدة النصرانية وتوكيد للعقيدة التي يقررها القرآن ببشرية المسيح وعبوديته لله ، ولما حكاه من أقوال لبني إسرائيل على ما أوردناه في سياق تفسير سورة مريم . ومن ذلك في إنجيل متى ( إلهي إلهي لماذا تركتني ) و ( فر على وجهه يصلي قائلا : يا أبت إن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك ) وفي إنجيل مرقص حينما احتضر ( إلهي إلهي لماذا تركتني ) وفي إنجيل لوقا ( صلى قائلا إن شئت فأجز عني هذه الكأس ) و ( لما صلبوه قال يسوع : يا أبت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون ) و ( يا رب اذكرني متى جئت في ملكوتك يا أبت في يدك استودع روحي )
والنصارى يسوقون التواتر في الأناجيل المتداولة اليوم كحجة على صلب المسيح . وما دام القرآن ينكر ذلك فيكون هذا هو عقيدة المسلم . وجملة ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) تفيد أن هذا الأمر لم يكن من المسلمات في زمن نزول القرآن بل كان مثار جدل وشك بين الناس وبين النصارى في الجملة . والمدونات القديمة مؤيدة لذلك . وإذا كانت الأناجيل المعترف بها والمتداولة مجمعة على ذلك ، فلا يعني هذا أنه لم يكن أناجيل وأسفار مناقضة لذلك فبادت أو أبيدت . والقرآن بعد لا ينفي الصلب والقتل ، وإنما ينفيهما عن شخص المسيح مع إلهامه بإيقاعهما على شبيه له . وقد يكون هذا هو أصل التواتر المسيحي ولا يصح أن يكون حجة ضد تقرير القرآن كما هو المتبادر . والروايات تذكر مسألة التشبيه للمسيح على ما شرحناه قبل .
وقد حاول مبشر نصراني سمى نفسه الأستاذ حداد في كتاب له عنوانه ( القرآن والكتاب ) تأويل العبارة القرآنية ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) بما يتفق مع العقيدة النصرانية فقال : إنها إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أماتوه وأعدموا وجوده بالمرة ، وإن هذا هو الذي شبه لهم أنهم فعلوه ولم يفعلوه . وفي هذا تمحل وتعسف . فالمؤولون والمفسرون بدون خلاف أولوا وفسروا الجملة القرآنية بالصلب والقتل فعلا اللذين ينفيهما القرآن ، وأولوا جملة ( شبه لهم ) بأن المقصود منها المسيح . والمدونات والروايات القديمة تؤيد هذا تفسير والتأويل على ما شرحناه آنفا .
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون{[704]} عن أهل التأويل من المصدر الأول كابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وغيرهم لجملة { وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه } للتوفيق بينها وبين آية آل عمران ( 55 ) التي تذكر أن الله رافعه إليه بعد توفيه { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } ولقد علقنا على هذه المسألة في تفسير آية آل عمران . وإذا كان من شيء نقوله هنا ، فهو أن العبارة القرآنية في آية النساء التي نحن في صددها لا تتناقض مع آية آل عمران كما هو المتبادر لنا .
كذلك تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من المصدر الإسلامي الأول المذكورين آنفا لجملة { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } من ذلك أن الضمير { به } عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا سيدرك عند موته صدق رسالته ، ويؤمن بها مع قولهم عن هذا لا ينفعهم ؛ لأن التوبة لا تنفع عند الموت . ولقد فند الطبري هذا القول ؛ لأن النبي لم يذكر في سياق حتى يصح عودة الضمير إليه . ورجح أن يكون الضمير عائدا إلى عيسى ، وهو الأوجه الذي ذهب إليه جمهور المؤولين . وقد فرعوا على هذا القول بأن يحتمل أن يكون في معنيين الأول أن كل كتابي يهوديا كان أم نصرانيا لا بد من أن يؤمن عند موته بحقيقة عيسى المقررة في القرآن بأن عبد الله ورسوله مع القول : إن هذا لا ينفعهم . والثاني أن كل كتابي لا بد من أن يؤمن بحقيقة عيسى قبل موت عيسى نفسه . ولحظ بعضهم أن موت عيسى إنما سيكون بعد مجيئه في آخر الزمن مرة أخرى ، والذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة أوردناها وعلقنا عليها في سياق الآية ( 56 ) من سورة غافر ، وأن جمهورا كبيرا من الكتابيين يكونون قد ماتوا قبل ذلك خلال الأحقاب الطويلة فقال : إن المقصود هم الباقون أحياء من اليهود والنصارى عند مجيئه آخر الزمان . ونص الآية قوي في شموله لكل كتابي بحيث يكون هذا الاستدراك غير شاف ، وبحيث يبقى الأكثر ورودا هو المعنى الأول . وهو إيمان كل كتابي بحقيقة عيسى قبل موته ، وهذا ما عليه الجمهور . وما دامت الآية تلهم أن هذا هو الأقوى فيجب التسليم به مع القول : إنه يدخل في نطاق الأمور الإيمانية الغيبية وإذا لم يمكن ماديا وفعلا فلا يمكن إثبات بطلانه كذلك . ومع واجب الإيمان بذلك فقد يمكن أن يكون من حكمة تقريره بالأسلوب القوي الذي جاء به توكيد صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمومها وتثبيت معتنقيها . والله تعالى أعلم .
والأناجيل المتداولة تذكر أن حاكم الرومان في القدس هو الذي أمر بالقبض على المسيح وصلبه حتى الموت ، وتذكر أن ذلك كان بتحريض وإصرار اليهود وقولهم له دمه علينا وأبنائنا{[705]} والآية ( 159 ) تنفي قتل اليهود لعيسى وصلبه ولكنها تلهم أنهم أقدموا على الجريمة ونفذوها في شبيهه ، ولسنا نرى تناقضا ؛ لأن الحاكم الروماني فعل ما فعله بطلبهم وتحريضهم ، فكأنهم هم الذين فعلوه . ومع ذلك فنحن نعتقد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ممتدا إلى ما قبله كانوا يقولون إنهم صلبوه وقتلوه وإن القرآن حكى قولهم هذا . وإذا كان القرآن نفى الصلب اليهود لعيسى وقتله فإنهم يظلون مدموغين بالجريمة ؛ لأنهم حاولوا ذلك ونفذوه ولو في شبيه له فضلا عن ما دمغهم به القرآن بما كانوا يرمون مريم به من بهتان عظيم الذي كان يعني الزنا .
ولقد قال بعض المفسرين{[706]}في صدد ما جاء في الآية ( 160 ) من تحريم بعض الطيبات على اليهود : إنها المذكورة في آية سورة الأنعام هذه { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون 146 } والقول في محله . وبعض الآية يؤيده ؛ لأنها تقرر أن التحريم كان عقوبة لهم على ظلمهم . وهو ما ذكرته الآية ( 160 ) وقد علقنا على هذه المسألة في سياق تفسير سورة الأنعام فلا نرى حاجة إلى التكرار{[707]} .
وروح الآيتين ( 160 161 ) تلهم أن ما جاء فيهما من أخذ اليهود الربا الذي نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وصدهم كثيرا عن سبيل الله عائد إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي المدينة . ولقد حكت آيات عديدة مرت في سورتي البقرة وآل عمران ، وفي هذه السورة شدة صدهم عن سبيل الله . وحكت آية آل عمران ( 75 ) قولهم بأنهم ليس عليهم في الأميين سبيل . وكان هذا يجعلهم يستحلون أموالهم غيرهم وخيانتهم والاحتيال عليهم . وهو ما تفيده جملة { وأكلهم أموال الناس بالباطل } ولقد حكت بعض أسفارهم أن الله وصاهم بعدم هضم الغريب وظلمه ومضايقته{[708]} ولذلك استحكمت فيهم الفقرة الأخيرة من الآية ( 75 ) من سورة آل عمران { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .
وقد يرد أن اليهود إنما نهوا في أسفارهم عن أخذ الربا من أقاربهم دون الأجانب{[709]} وما دام القرآن يحكي عنهم أنهم كانوا يأخذون الربا الذي نهوا عنه ، فيكونون إما أنهم تجاوزوا ما أمروا به فصاروا يأخذون الربا من أقاربهم ، وإما أن وصية الله لهم هي عدم أخذ الربا من أحد ما فحرفوا كتبهم ليستحلوا أخذ الربا من غيرهم . وهناك نصوص عديدة في أسفار العهد القديم فيها ذم مطلق للربا والمرابين ؛ حيث يكون في ذلك تأييد لكون الربا كان محرما عليهم مطلقا فاستحلوه{[710]} .
وجملتا { وأكلهم أموال الناس بالباطل } و { وبصدهم عن سبيل الله } يمكن أن تكونا بالنسبة لسابق تاريخ اليهود على ما حكته عنهم أسفار عديدة من أسفارهم ، ويمكن أن تكونا بالنسبة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث حكت ذلك عنهم آيات قرآنية عديدة منها ما جاء في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مر تفسيرهما ، ومنها في ما جاء في آيات في سورتي المائدة والتوبة الآيات ( 42 و 62 ) في المائدة و ( 34 ) في التوبة .
هذا ، والآيات في جملتها تدل على أنها نزلت في ظرف كان فريق من اليهود فيه ما زال موجودا في المدينة وكان على شيء من القوة والاعتداد حتى يستطيع أن يجادل ويتحدى . وبعبارة ثانية تدل على أنها نزلت في وقت مبكر . وقبل التنكيل ببني قريظة الذي مرت حكايته في سورة الأحزاب على كل كما هو الأمر بالنسبة للآيات ( 44 56 ) والآيات ( 139143 ) من هذه السورة على ما نبهنا عليه من قبل .