قال البرهان البقاعي : وهو أولى لقوله :
( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما )
( بل رفعه الله إليه ) رد وإنكار لقتله . واثبات لرفعه . أي : اليقين إنما هو في رفعه إليه ( وكان الله عزيزا حكيما ) أي : لا يبعد رفعه على الله . لأنه عزيز لا يغلب على ما يريده . وحكيم اقتضت حكمته رفعه . فلا بد أن يرفعه . وهي حفظه لتقوية دين محمد صلى الله عليه وسلم ، حين انتهائه إلى غاية الضعف بظهور الدجال ، فيقتله . أفاده المهايمي .
لا خفاء في أن هذه الآية الكريمة لتكذيب اليهود في دعوى الصلب التي تابعهم عليها أكثر النصارى ، ولتبرئة ساحة مقام عيسى عليه السلام مما توهموه في ذلك . ولما كانت هذه الآية من مباحث الأمتين ، ومعارك الفرقتين –أردت بسط الكلام في هذا المقام . انتهاجا للحق . وأخذا بناصر الصدق . ورد أباطيل المكذبين . وتزييف أقوال الملحدين . نورد أولا ما زعموه ورووه . مما نفاه التنزيل الكريم . ثم بطلان المروي عندهم وتفاهته بالحجج الدامغة . ثم ما رواه أئمة سلفنا رضي الله عنهم في هذه القصة . ثم رد زعمهم أن إلقاء الشبه سفسطة . ثم سقوط دعواهم التواتر في الصلب . ثم تزييف تفسير بعض النصارى لهذه الآية ، وأنها مطابقة لمعتقدهم على زعمه . مع ذكر من رفض عقيدة الصلب من فرق النصارى . وذكر ما روي في إنجيل خامس يوافق عقيدة المسلمين ، ويطابق هذه الآية . ونختم هذه المباحث بما قاله شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه في هذه الآية : وأبدع ، على عادته قدس سره .
فهذه المذاهب ينبغي معرفتها لكل طالب . إذ تفرغت إلى مباحث فائقة . وفوائد شائقة . فنقول وبالله التوفيق :
ذكر ما زعموه ورووه مما نفاه التنزيل الكريم
جاء في الفصل الثاني والعشرين من ( إنجيل لوقا ) ما نصه :
2- {[2411]}كان رؤساء الكهنة والكتبة يلتمسون كيف يقتلون يسوع لكنهم كانوا يخافون من الشعب
38-{[2412]} أي لأن الشعب كلهم كانوا يبكرون إليه في الهيكل ( وهو الكنيسة ) ليستمعوه .
/ 37-{[2413]} وكان في النهار يعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل المسمى جبل الزيتون . كما ذكر لوقا قبل الفصل .
3-{[2414]} فدخل الشيطان في يهوذا بالأسخريوطي وهو أحد الاثنى عشر .
4-{[2415]} فمضى وفاوض رؤساء الكهنة والولاة كيف يسلمه إليهم .
5-{[2416]} ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة .
6-{[2417]} فواعدهم وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم بمعزل عن الجمع .
7-{[2418]} وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يذبح فيه الفصح .
8-{[2419]} فأرسل ويوحنا قائلا : امضيا فأعدا لنا الفصح لنأكل .
9-{[2420]} فقالا له : أين تريد أن نعد .
10-{[2421]} فقال لهما : إذا دخلتما المدينة يلقاكما رجل حامل جرة ماء . فاتبعاه إلى البيت الذي يدخله .
/ 11-{[2422]} وقولا لرب البيت : المعلم يقول لك أين يكون المنزل الذي آكل فيه الفصح مع تلاميذي .
12-{[2423]} فهو يريكما غرفة كبيرة مفروشة . فأعدا هناك .
13-{[2424]} فانطلقا فوجدا كما قال لهما وأعدا الفصح .
14-{[2425]} ولما كانت الساعة اتكأ هو والرسل الاثنا عشر معه .
15- {[2426]}فقال لهم : لقد اشتهيت شهوة ان آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم .
16-{[2427]} فاني أقول لكم : اني لا آكله بعد حتى يتم في ملكوت الله .
17-{[2428]} ثم تناول كأسا وشكرا وقال : خذوا فاقتسموا بينكم .
18-{[2429]} فاني أقول لكم : اني لا أشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله .
19-{[2430]} وأخذ خبزا وشكر وكسر وأعطاهم قائلا : هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم . اصنعوا هذا لذكري .
/ 20-{[2431]} وكذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلا : هذه هي الكاس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من أجلكم .
21-{[2432]} ومع ذلك فها إن يد الذي يسلمني معي على المائدة .
22-{[2433]} وابن البشر ماض كما هو محدود . ولكن الويل لذلك الرجل الذي يسلمه .
23-{[2434]} فطفقوا يسألون بعضهم بعضا : من كان منهم مزمعا أن يفعل ذلك .
24-{[2435]} ووقعت بينهم مجادلة في أيهم يحسب الأكبر .
25-{[2436]} فقال لهم : إن ملوك الأمم يسودونهم والمتسلطون عليهم يدعون محسنين .
26-{[2437]} وأما أنتم فليس كذلك . ولكن ليكن الأكبر فيكم كالأصغر . والذي يتقدم كالذي يخدم .
28-{[2438]} وانتم الذين ثبتم معي في تجاربي .
/ 29-{[2439]} فأنا أعد لكم الملكوت كما أعده لي أبي .
30-{[2440]} لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر .
31-{[2441]} وقال يسوع : سمعان سمعان هو ذا الشيطان سأل أن يغربلكم مثل الحنطة .
32-{[2442]} ولكني صليت من أجلك لئلا ينقص إيمانك وأنت متى رجعت فثبت إخوتك .
33-{[2443]} فقال له : أنا مستعد أن امضي معك إلى السجن والى الموت .
34-{[2444]} قال : إني أقول لك يا بطرس انه لا يصيح الديك اليوم حتى تنكر ثلاث مرات أنك تعرفني .
39-{[2445]} ثم خرج ومضى على عادته إلى جبل الزيتون . وتبعه التلاميذ
40-{[2446]} فلما انتهى إلى المكان قال لهم : صلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
41- {[2447]}ثم فصل عنهم نحو رمية حجر وخر على ركبتيه وصلى .
/42-{[2448]} قائلا : يا رب إن شئت فأجز عني هذه الكأس لكي لا تكن مشيئتي بل مشيئتك .
43-{[2449]} وتراءى له ملاك من السماء يشدده .
44-{[2450]} ولما أخذ في النزاع أطال في الصلاة ، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض .
45-{[2451]} ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلامذته فوجدهم نياما من الحزن .
46-{[2452]} فقال لهم : ما بالكم نائمين . قوموا فصلوا لئلا تدخلوا في تجربة .
47-{[2453]} وفيما هو يتكلم وإذا بجمع يتقدمهم المسمى يهوذا أحد الاثني عشر فدنا من يسوع ليقبله .
48- {[2454]} فقال له يسوع : يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن البشر .
49-{[2455]} فلما رأى الذين حوله ما سيحدث قالوا له : أنضرب بالسيف .
50-{[2456]} وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى .
/ 51-{[2457]} فأجاب يسوع وقال : قفوا لا تزيدوا . ثم لمس أذنه فأبرأه .
52-{[2458]} ثم قال يسوع للذين جاؤوا إليه من رؤساء الكهنة وولاة الهيكل والشيوخ : كأنما خرجتم إلى لص بسيوف وعصي .
53-{[2459]} إني كل يوم في الهيكل لم تمدوا علي أيديكم ولكن هذه ساعتكم وهذا سلطان الظلمة .
54-{[2460]} فارتموا على يسوع فقبضوا عليه وقادوه إلى بيت رئيس الكهنة .
وكان الكتبة والرؤساء مجتمعين . وهناك أعطى يهوذا الحواري الثلاثين درهما التي أخذها رشوة على تسليم المسيح .
45-{[2461]} فجلس داخلا مع الخدام لينظر الغاية .
55-{[2462]} وأضرموا نارا في وسط الدار وجلسوا حولها فجلس بطرس بينهم .
56-{[2463]} فرأته جارية جالسا عند الضوء فتفرست فيه ثم قالت : إن هذا أيضا كان معه .
/ 57-{[2464]} فكفر أمام الجمع وانكره قائلا : انس لست أعرفه .
58-{[2465]} وبعد قليل رآه آخر فقال : أنت أيضا منهم . فأخذ بطرس يحلف لا أعرف هذا الرجل ولست منهم .
59-{[2466]} وبعد نحو ساعة أكد عليه آخر قائلا : في الحقيقة هذا أيضا كان معه فإنه جليلي .
60-{[2467]} فقال بطرس : يا رجل لا أدري ما تقول .
قال مفسروهم : ان خطأ بطرس هذا كان ثقيلا : لأن المسيح قال : من ينكرني أمام الناس أنكره أمام أبي الذي في السموات .
60-{[2468]} وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك .
61-{[2469]} فالتفت يسوع ونظر إلى بطرس فتذكر كلامه إذ قال : انك قبل أن يصيح الديك . تنكرني ثلاث مرات .
62-{[2470]} فخرج بطرس وبكى بكاء مرا .
63-{[2471]} وكان الرجال الذين قبضوا عليه يهزأون به ويضربونه .
/ 64-{[2472]} وغطوه وطفقوا يلطمونه ويسألونه قائلين : تنبأ من الذي ضربك .
65{[2473]} وأشياء أخر كانوا يقولونها عليه مجدفين .
66-{[2474]} ولما كان النهار اجتمعت شيوخ الشعب رؤساء الكهنة عليه ليميتوه وأحضروه إلى محفلهم .
67-{[2475]} وقالوا : إن كنت أنت المسيح فقل لنا . فقال لهم : إن قلت لكم لا تؤمنون .
68-{[2476]} وان سألتكم لا تجيبوني ولا تطلقوني .
69-{[2477]} ولكن من الآن يكون ابن البشر جالسا عن يمين قدرة الله .
70-{[2478]} فقال الجميع : أفأنت ابن الله . فقال لهم : انتم تقولون إني أنا هو .
71-{[2479]} فقالوا ما حاجاتنا إلى شهادة إنا قد سمعنا من فمه .
فأوثقوه . واما يهوذا الأسخريوطي الدافع ، لما رأى يسوع قد دين ندم ومضى فأعاد الثلاثين الفضة إلى رؤساء الكهنة قائلا : لقد أخطأت بتسليمي دما زكيا . فقالوا له : ما علينا أنت أخبر . فطرح الفضة في الهيكل وذهب فخنق نفسه ، وأما الرؤساء الكهنة فأخذوا الفضة وقالوا لا يحل لنا ان نضعها في بيت التقدمة لأنها ثمن دم .
/ 1-{[2480]} ثم ذهب جميع جمهورهم ومضوا بيسوع إلى بيلاطس .
2-{[2481]} وطفقوا يشكونه قائلين : انا وجدنا هذا يفسد امتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر ويدعي أنه هو المسيح الملك .
3-{[2482]} فسأله بيلاطس قائلا : هل أنت ملك اليهود . فأجابه قائلا : أنت قلت .
4- {[2483]}فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة وللجموع : إني لم أجد على هذا الرجل علة .
5-{[2484]} فلجوا وقالوا : انه يهيج الشعب إذ يعلم في اليهودية كلها مبتدئا من الجليل إلى ههنا .
6-{[2485]} فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل : هل الرجل جليلي .
7-{[2486]} ولما علم أنه من ايالة هيرؤدس أرسله إلى هيرؤدس وكان في تلك الأيام في وأرشليم .
8-{[2487]} فلما رأى هيرؤدس يسوع فرح جدا لأنه من زمان طويل كان يشتهي أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة ويرجو أن يعاين آية يصنعها .
/ 9-{[2488]} وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء .
10-{[2489]} وكان رؤساء الكهنة والكتبة واقفين يشكونه بلجاجة .
11-{[2490]} فازدراه هيرودس مع جنوده وهزأ به وألبسه ثوبا لامعا ورده إلى بيلاطس .
12-{[2491]} وتصادق هيرودس وبيلاطس في ذلك اليوم وقد كانا من قبل متعاديين .
13-{[2492]} فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب .
14-{[2493]} وقال لهم : قد قدمتم إلى هذا الرجل كأنه يفتن الشعب . وها أنا قد فحصته أمامكم فلم أجد على هذا الرجل مما تشتكونه به .
15-{[2494]} ولا هيرودس أيضا . لأني أرسلتكم إليه . وهو ذا لم يصنع به شيء من حكم الموت .
16-{[2495]} فأنا أؤدبه وأطلقه .
17-{[2496]} وكان لابد أن يطلق لهم في كل عيد رجلا .
/ 18-{[2497]}فصاحوا كلهم جملة قائلين : ارفع هذا وأطلق لنا برأبا .
19-{[2498]}كان ذاك قد ألقي في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل .
20-{[2499]} فناداهم بيلاطس مرة أخرى وهو يريد أن يطلق يسوع .
21- {[2500]}فصرخوا قائلين : اصلبه اصلبه .
22-{[2501]} فقال لهم مرة ثالثة : وأي شر صنع هذا ؟ إني لم أجد عليه علة للموت . فأنا أؤدبه وأطلقه .
23-{[2502]} فألحوا عليه بأصوات عالية طالبين أن يصلب واشتدت أصواتهم .
24-{[2503]} فحكم بيلاطس أن يجرى مطلبهم .
25-{[2504]} فأطلق لهم الذي طلبوه ذاك الذي ألقي في السجن لأجل فتنة . وجلد يسوع بالسياط وأسلمه ليصلب .
قال مفسروهم : ولذا يظهر أن اللصين الذين صلبا معه جلدا أيضا والجلادون كانوا ستين نفرا . وأرشاهم اليهود ليميتوه بالجلد خشية أن يطلقه بيلاطس ونزعوا ثيابه وألبسوه لباسا قرمزيا وضفروا إكليلا من شوك العوسج ووضعوه على رأسه ، وأنشبوا في رأسه عنفا وأشواكه الحادة . ومن هنا أخذت الكنيسة العادة على ابقاء إكليل من شعر في رأس الكهنة تذكارا لاكليل الشوكي . ثم جثوا على ركبهم مستهزئين به وقائلين : السلام يا ملك اليهود . وتناولوا قصبة يضربون بها رأسه . ولما هزؤوا به نزعوا عنه ذلك اللباس وألبسوه ثيابه واستاقوه ليصلب . وكان يتقدمه مبوق يدعو الشعب إلى هذا المنظر بحسب عادة اليهود . وخشبة الصلب على منكبيه .
32-{[2505]} وانطلق معه بآخرين مجرمين ليقتلا .
ولما بلغوا إلى المكان المسمى الجمجمة وصلبوه هناك هو والمجرمين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن اليسار . . .
وناولوه خلا مخلوطا بمرارة أو خمرا ممزوجا بعلقم بعد أن طلب الماء فذاقه ولم يشرب . ولما صلبوه بالمسامير وبالحبال معها . وكانت المسامير في راحة اليدين والرجلين ، ضربوا جنبه بالحربة فنفذت من صدره . وفي الصليب محل يسند إليه رجليه . واقتسموا بالقرعة وهي ثلاثة : القميص والرداء والجبة . ولم يكن يلبس السروال كعادة تلك البلاد . وجلسوا هناك يحرسونه لئلا يسرقه أحد .
وكان الشعب واقفين ينظرون . والرؤساء يسخرون منه معهم قائلين : قد خلص آخرين فليخلص نفسه ان كان هو مسيح الله المختار .
/ 36{[2506]} وكان الجند أيضا يهزؤون به .
37-{[2507]} وقائلين : إن كنت أنت ملك اليهود فخلص نفسك .
38-{[2508]} وكان عنوان فوقه مكتوبا بالحروف اليونانية واللاتينية والعبرانية : هذا هو ملك اليهود .
44-{[2509]} ولما كان نحو الساعة السادسة حدثت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة .
45-{[2510]} وأظلمت الشمس ، وانشق حجاب الهيكل من وسطه .
46-{[2511]} ونادى يسوع بصوت عظيم قائلا : ايل ايل لم شبقتني ؟ أي : الهي الهي لم ذا تركتني ؟ فكان أناس من القائمين يقولون : دعوا ننظر هل يأتي ايليا فيخلصه . ثم صرخ أيضا بصوت عال وأسلم الروح .
47-{[2512]} فلما رأى قائد المئة ما حدث مجد الله قائلا : في الحقيقة كان هذا الرجل صديقا .
48-{[2513]} وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر ، لما عاينوا ما حدث ، رجعوا وهم يقرعون صدورهم .
/ 49-{[2514]} وكان جميع معارفه والنساء اللواتي تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك .
50-{[2515]} وإذا برجل اسمه يوسف وهو صالح صديق .
51-{[2516]} ولم يكن موافقا لرأيهم وعملهم .
52-{[2517]} فدنا إلى بيلاطس وسأله جسد يسوع فأعطاه إياه .
53-{[2518]} فأنزله ولفه في كتان في قبر منحوت لم يكن وضع فيه أحد .
54-{[2519]} وكان يوم التهيئة أي : الجمعة وقد أخذ يلوح . . .
وفي يوم السبت اجتمع عظماء الكهنة عند بيلاطس قائلين له : قد تذكرنا أن ذاك المضل كان يقول وهو حي : إني أقوم بعد ثلاثة أيام . فمر أن يحرسوا القبر حتى اليوم الثالث . لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ليلا ويقولوا للشعب : انه قام من بين الأموات . فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى . فأمر لهم بجنود يحرسون وحصنوا القبر وختموا الحجر مع الجنود . وفي عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد أتت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر .
قال مفسروهم : إن هذه الآية أتعبت العلماء في تفسيرها والتوفيق بين أجزائها وبين أقوال باقي الانجيليين . انتهى .
وإذا بزلزلة عظيمة قد صارت لأن ملك الرب انحدر من السماء . وكان الملك جبريل . ظهر بهيئة شاب وجاء فدحرج الحجر عن باب القبر وجلس فوقه . وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج . ومن الخوف منه اضطرب الحراس وصاروا كالأموات . فقال للنسوة : لا تخفن . فقد عرفت أنكن تطلبن يسوع المصلوب . انه ليس ههنا . فإنه قد قام .
55- {[2520]}كانت النساء اللواتي أتين معه من الجليل . يتبعن . فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده .
56-{[2521]} ثم رجعن وأعددن حنوطا وأطيابا . وفي السبت قررن على حسب الوصية .
1-{[2522]} وفي أول الأسبوع باكرا جدا أتين إلى القبر وهن يحملن الحنوط الذي أعددناه .
2-{[2523]} فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر .
3-{[2524]} فدخلن فلم يجدن جسد يسوع .
4-{[2525]}وبينما هن متحيرات في ذلك إذا برجلين قد وقفا عندهن بلباس براق .
/ 5-{[2526]} وإذ كن خائفات ونكسن وجوههن إلى الأرض قالا لهن : لماذا تطلبن الحي من الأموات .
6-{[2527]} ليس هو ههنا لكنه قام . اذكرن كيف كلمكن وهو بعد الجليل .
7-{[2528]} إذ قال انه ينبغي لابن البشر أن يسلم إلى أيدي أناس خطأة ويصلب يقوم في اليوم الثالث . فذكرن كلامه .
ورجعن إلى القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله .
وقلن لهم : قد أخذوا يسوع من القبر ولا نعلم أين وضعوه .
10- {[2529]}ومريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب وأخر معهن هن اللواتي أخبرن الرسل بهذا .
فكان عندهم هذا الكلام كالهذيان ولم يصدقوهن .
/ 12-{[2530]} فقام بطرس وأسرع إلى القبر وتطلع فرأى الأكفان موضوعة على حدة فانصرف متعجبا في نفسه مما كان .
13-{[2531]} وان اثنين منهم كانا سائرين في ذلك اليوم إلى قرية اسمها عماوس بعيدة عن أورشليم ستين غلوة .
14- {[2532]}وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كلها .
15-{[2533]} وفيما هما يتحادثان ويتساءلان دنا منهما يسوع نفسه وكان يسير معهما .
16-{[2534]} ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته .
17-{[2535]} فقال لهما : ما هذا الكلام الذي تتحاوران فيه وأنتما سائران مكتئبين .
18-{[2536]} فأجاب أحدهما : أفأنت غريب في أورشليم ولم تعلم ما حدث بها في هذه الأيام ؟
19-{[2537]} فقال لهما : وما هي ؟ قالا له ما يخص يسوع الناصري الذي كان رجلا نبيا ذا قوة في العمل والقول أمام الله وجميع الشعب .
/ 20-{[2538]} وكيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه .
21-{[2539]} واليوم هو اليوم الثالث لحدوث ذلك .
22-{[2540]} الا أن نساء منا أدهشننا لأنهن بكرن إلى القبر .
23-{[2541]} فلم يجدن جسده فأتين وقلن : انهن رأين منظر ملائكة قالوا انه حي .
24- {[2542]} فمضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا كما قالت النساء لكنهم لم يروه .
25- {[2543]}فقال لهما : يا قليلي الفهم وبطيىء القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء .
26- {[2544]}أما كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده .
27- {[2545]}ثم أخذ يفسر لهما ، من موسى ومن جميع الأنبياء ، ما يختص به في الأسفار كلها .
28-{[2546]} فلما اقتربوا إلى القرية التي كانا يقصدانها تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد .
29-{[2547]} فألزماه قائلين : امكث معنا لأن المساء مقبل وقد مال النهار . فدخل ليمكث معهما .
/ 30-{[2548]} ولما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما .
31-{[2549]} فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما .
32-{[2550]} فقال أحدهما للآخر : أما كانت قلوبنا مضطرمة فينا حين كان يخاطبنا في الطريق ويشرح لنا الكتب .
34-{[2551]} وقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين .
وهم يقولون : ان الرب قام بالحقيقة وتراءى لسمعان .
35-{[2552]} فأخذا يخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز .
36-{[2553]} وبينما هم يتحدثون بهذه وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم : السلام لكم . أنا هو لا تخافوا .
37-{[2554]} فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحا .
/ 38-{[2555]} فقال لهم : ما بالكم مرتعدين ولماذا ثارت الأوهام في قلوبكم .
39-{[2556]} انظروا يدي ورجلي إني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظام كما ترون لي .
40-{[2557]} ثم أراهم يديه ورجليه .
41-{[2558]} وإذ كانوا غير مصدقين بعد من الفرح ومتعجبين قال : أعندكم ههنا طعام .
42-{[2559]} فأعطوه قطعة من سمك مشوي وشهد عسل .
43-{[2560]} فأخذ وأكل أمامهم .
50-{[2561]} خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يد يد وباركهم .
51-{[2562]} وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء .
/ هذا ما جاء في ( انجيل لوقا ) ممزوجا ببعض تفاسيرهم . وإنما آثرت النقل عنه لزعمهم أن كلامه أصح وأفصح ، وأشد انسجاما من كلام باقي مؤلفي العهد الجديد . كما في ( دخيرة الألباب ) من كتبهم .
في بطلان ما رووه وتهافته بالحجج الدامغة
اعلم أن في كتبهم الموجودة من التضارب في هذه القصة ما يقضي بالعجب ويبرهن على عدم الوثوق بها . كما قال تعالى : ( ما لهم به من علم إلا إتباع الظن ){[2563]} .
قال البرهان البقاعي رحمه الله في ( تفسيره ) بعد ( أن ساق أزيد مما سقناه عن أناجيلهم ، وقال : أحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده ) . ما نصه : فقد بان لك إن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد . وهو الأسخريوطي . وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه . وانه إنما وضع يده عليه ولم يقل بلسانه انه هو . وأن الوقت كان ليلا . وأن عيسى نفسه قال لأصحابه : كلكم تشكون في هذه الليلة . وأن تلاميذه كلهم هربوا فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره . وان بطرس إنما تبعه من بعيد . وان الذي دل عليه خنق نفسه . وان الناقل لأن الملك قال انه قام من الأموات ، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد . وما يدري النسوة الملك من غيره . ونحو ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن . وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرها التصديق بها . وتكون لجرءتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح . وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه . ويدل على أن المصلوب ، إن صح أنهم صلبوه ، من ظنوه اياه ، هو الذي دل عليه .
/ قال بعض العلماء : انه ألقى شبهه عليه . ويؤيد ذلك قولهم انه خنق نفسه . فالظاهر إنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه : فجزموا به . والله أعلم .
وقال العلامة خير الدين الآلوسي في ( الجواب الفسيح ) : اعلم أن ما ذكره هذا النصراني من أن المسيح عليه السلام مات بجسده ، وأقام على الصليب إلى وقت الغروب من يوم الجمعة ، ثم انزل ودفن ، وأقام في القبر إلى صبيحة يوم الأحد ، ثم انبعث حيا بلاهوته وتراءى للنسوة اللاتي جئن إلى قبره زائرات ، وظهر بعد لحوارييه . . . إلى آخر ما قاله – هو ما اجمع عليه النصارى . ويرد ذلك العقل والنقل . وان صدقتهم اليهود في قتله . فاستمع من المنقول ما يتلى عليك باذن داعيه . وخذ ما يأتيك من المعقول بالدلائل الهادية . على أن المقتول هو الشبه . وان الحال عند صالبيه اشتبه . وان المسيح رفعه الله تعالى ، قبل القتل ، إليه . لشرفه عنده ومكانته لديه . قال الله تعالى في بيان حال اليهود : ( وما قتلوه وما صلبوه . . . ) الآية . وفي الإنجيل أن رئيس الكهنة أقسم على المأخوذ بالله أءنت المسيح بن الله ؟ فقال له : أنت قلت . ولم يجبه بأنه المسيح . فلو كان المقسم عليه هو المسيح لقال له : نعم . ولم يور ولم يتلعثم . وهو محلف بالله . لاسيما وهو بزعمهم الإله . الذي نزل لخلاص عباده بافداء نفسه ودخول الجحيم ولأواه .
وقال لوقا في الفصل التاسع من انجيله .
28-{[2564]} إن المسيح صعد قبل الصلب إلى جبل الخليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا .
29-{[2565]} فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه وصارت تلمع كالبرق .
/ 30-{[2566]} وإذا موسى بن عمران وايليا .
31-{[2567]} قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم .
32- {[2568]}وأما الذين كانوا مع المسيح فوقع عليهم النوم فناموا .
وهذا من أوضح الدلالات على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به . إذ لا معنى لظهور موسى وايليا ووقوع النوم على أصحابه إلا رفعه . ألا ترى أن اليهود كانوا يسمعون منه ، عليه السلام ، أن ايليا يأتي . فلما رفعوه على الخشبة ، كما في الأناجيل ، قالوا : دعوه حتى نرى أن ايليا يأتي فيخلصه . فصاروا في شك يريدون تحقيقه . فإن أتى ايليا فما رفعوه هو المسيح . وان لم يأت فهو غيره كما في ظنهم . فلما لم يأت ازدادوا ريبة في أمره . ومن رآه الحواريون بعد يقظتهم ، يجوز أن يكون طورا من أطوار روحه . لأنه عليه السلام لا يبعد أن يكون له قوة التطور . وتشكل الروح بعد الموت أمر ممكن . لاسيما وقد صدرت على يديه معجزات أعظم من ذلك . كإحياء الموتى وكثرة الخبز والحيتان وإبراء الأكمه والأبرص .
1-{[2569]} كان يسوع مع تلاميذه بالبستان فجاء اليهود في طلبه .
4-{[2570]} فخرج إليهم يسوع وقال لهم : من تريدون ؟
قالوا : يسوع . ( وقد خفي شخصه عنهم ) . فقال : أنا يسوع . وفعل ذلك مرتين وقد نكروا صورته .
فانظر أيها العاقل كيف اعترف هنا أنه يسوع لما علم أن الله تعالى تولى حراسته منهم ، وأنهم لا يقدرون أن ينالوه بسوء . وكيف لم يعترف بأنه المسيح لما سأله رئيس الكهنة عن نفسه . فعدم اعترافه هناك واعترافه هنا دليل واضح على أن ما قاله الله سبحانه في القرآن العظيم هو الحق .
ثم من الأدلة على عدم قتله ما اشتملت عليه الأناجيل من اختلاف المباني والمعاني والمقاصد والاضطراب في حكاية هذه الواقعة والتناقض في ألفاظها . كدعواهم الألوهية مع قوله عليه الصلاة والسلام ( عند صلبه بزعمهم ) : الهي ! الهي ! لم تركتني . وقوله كما في الفصل السادس والعشرين من ( انجيل متى ) :
يا أبتاه إن كان لا يمكنك أن تفوتني هذه الكأس أي : الموت ولا بد لي أن أشربها فلتكن مشيئتك . وقام يصلي . وقوله لرئيس الكهنة : إنكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى ترونه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء . يريد بالقوة البارئ تعالى شأنه . وفي الفصل السابع من ( إنجيل يوحنا ) : إن المريسيين ورؤساء الكهنة أرسلوا شرطا ليقبضوا على المسيح ( يعني ليقتلوه كما قال مفسروهم ) قال أنا ماكث أيضا معكم زمانا . ثم انطلق إلى من أرسلني وتطلبونني فلا تجدونني . وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلا . قال اليهود في ذواتهم : فإلى أين ؟ هذا عتيد أن ينطلق حتى لا نجده نحن ، قال مفسروهم أي : يصعد إلى السماء . وغير ذلك مما لو أردنا ذكره والتنقير عنه لطال البحث .
ثم نقل خير الدين نحوا مما أسلفناه عن أناجيلهم وقال بعد ذلك : فأجل في تناقضها قداح فكرك . وفي تهافتها خيول ذهنك . لترى في هذه القصة ما يدلك على وقوع الشبه ونجاة المسيح عقلا ونقلا . كما قال تعالى : ( ولكن شبه لهم ) {[2571]} . وليتبين لك عبوديته ورسالته عليه السلام . فإن ذلك ظاهر من العبارات . ولنزدك في البيان وضوحا بما ننبهك عليه بكلمات يسيرة مقدوحا ومشروحا .
منها : قولهم انه صلب قبل الغروب يوم الجمعة ودفن مساءها . ولما جاءت النسوة عشية السبت المسفر صباحه عن الأحد ، وجدنه فارغا ، وقد قام منه المدفون . مع أن النصارى يزعمون ، كما في أناجيلهم ، أنه يبقى في قبره ، ثلاثة أيام . كما بقي يونان ، أي : يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها ، فما هذا إلا دليل على الاختلاق والتهافت في هذا الأمر .
ومنها : سؤاله اليهود مرتين من تطلبون ؟ وهم يقولون : يسوع الناصري . فلم يعرفوه وهو يقول لهم : أنا .
ومنها : أن يهوذا ارتشى ليدلهم عليه . وجعل العلامة على تعيينه لهم تقبيل يده . فلو كان معلوما لهم لعرفوه بلا دلالة وبلا سؤال . مع أنه كان بين أظهرهم وفي غالب الأيام في هيكلهم .
ومنها : أنه لما أقسم عليه رئيس الكهنة أنه هو المسيح لم يقل له : أنا المسيح . بل قال له : أنت قلت .
/ ومناه : إنكار بطرس له وهو من أعظم رسله . وإنكاره كفر .
ومنها : أنه لما سأله الوالي : أنت هو ؟ لم يرد له جوابا . فلو كان هو لاعترف وأقر .
ومنها : أنه لما كان أخذه ليلا ، وقد شوهت صورته وتغيرت محاسنه بالضرب والنكال ، فهي حالة توجب اللبس بين الشيء وخلافه . فكيف بين الشيء وشبهه ؟ فمن أين يحصل القطع بأنه هو ؟ لا سيما والنصارى قد حكموا أن المسيح عليه السلام قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة . ويحتمل أن المسيح ذهب في الجماعة الذين أطلقهم الأعوان ، وكان المتكلم معهم تلميذ أراد أن يبيع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح . فألقى الله تعالى عليه الشبه . وأتباع الأنبياء يفدون أنفسهم لأنبيائهم . وهذا أفدى نفسه لالهه ، بزعم النصارى .
ومنها : أنه يحتمل أن الأعوان ارتشوا على إطلاقه كما ارتشى يهوذا على الدلالة عليه . وأخذوا غيره ممن يريد أن يفدي نفسه للمسيح . والدليل عليه عدم اعترافه بأنه المسيح .
ومنها : قوله عليه السلام الذي تقدم آنفا : أنا ماكث معكم زمانا . ثم أنطلق إلى من أرسلني . فتطلبوني فلا تجدوني . وحيثما أكن فلا تستطيعون إليه سبيلا . فهذا صريح في أنهم سيطلبونه ولا يجدونه ولا ينالون منه شيئا ، لأنه سيصعد إلى السماء . ومثله ما في الفصل الثاني عشر من ( انجيل يوحنا ) ما لفظه : قال له الجموع : نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يمكث إلى الأبد . فكيف تقول أنت ابن البشر سوف يرتفع . من هو هذا ابن البشر ؟ قال لهم يسوع : إن النور معكم زمانا آخر يسيرا . امشوا ما دام لكم النور . لئلا يدرككم الظلام . ومن يمش في الظلام فلا يدري أين يذهب . آمنوا بالنور ما دام لكم النور . قال يسوع وذهب متواريا عنهم . انتهى .
ففي هذا الكلام أدلة كثيرة مؤيدة لقوله تعالى : ( بل رفعه الله إليه ) {[2572]} .
منها : أن اليهود قالوا لعيسى : إن المسيح المذكور في العهد القديم يمكث إلى الأبد . / أي : فإن كنت أنت المسيح فأنت لا تموت في هذا الزمان . بل تبقى إلى قيام الساعة . ولم يكذبهم في نقلهم ذلك . والمسلمون يقولون : انه رفع حيا إلى السماء وهو الآن حي فيها . وسينزل آخر الزمان عند قرب الساعة ويقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية . ويتوفى ويدفن عند النبي صلى الله عليه وسلم . فهو حي إلى الأبد ، يعني إلى قرب قيام الساعة . ونزوله وموته من إمارات الساعة الكبرى . وفي هذا القول دلالات ظاهرات أيضا على أنه ليس بإله :
أحدهما : أنه قال : ابن البشر . يعني لا تظنوا أني أدعي الألوهية وان أحييت الموتى . لأن ذلك معجزة خلقها الله تعالى على يده للإيمان بنبوته .
ثانيها : لو كان إلها لما توارى منهم خائفا من قتلهم له . لأن الإله هو خالق لهم ولعملهم . وعالم بزمن قدرتهم عليه . فكيف يفر وهو يعلم وقت موته ؟ وهو خالق الموت والحياة ؟ ثم انه يحتمل أن الله تعالى ألقى شبهه على شيطان أو مارد من مردة الجن ليخلص نبيه ورسوله من أيدي أعدائه ، ويرفعه إليه محفوظا مكرما . كما أجرى على يديه إحياء الموتى ، وخلقه من غير أب ، وأبرأ الأكمه والأبرص . لاسيما وهو بزعمهم اله العالم وخالق الإنس والجن وبني آدم . فأي ضرورة تدعو لإثبات أنواع الاهانة والعذاب ، على ما زعموا ، لرب الأرباب . مع وجود التناقض فيما نقلته أناجيلهم في هذا الفصل والباب .
عجبا للمسيح بين النصارى *** والى أي والد نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا : *** إنهم بعد ضربه صلبوه
فإذا كان ما يقولون حقا *** وصحيحا ، فأين كان أبوه ؟
حين خلى ابنه رهين الأعادي *** أتراهم أرضوه أم أغضبوه ؟
فلئن كان راضيا بأذاهم *** فاحمدوهم لأنهم عذبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه *** واعبدوهم لأنهم غلبوه
وفي كتاب ( الفاصل بين الحق والباطل ) ما نصه : وفي الذي اتخذتموه شهيدا على صلبه من / كلام عاموص النبي . إن الله تعالى قال على لسانه : ثلاثة ذنوب أقبل لبني اسرائيل . والرابعة لا أقبلها . بيعهم الرجل الصالح –حجة عليكم لا لكم . لأنه لم يقل بيعهم اياي . ولا قال بيعهم إلها متساويا معي .
ويجري تأويل ذلك على وجهين : إما أن يكون عنى بالمبيع عيسى كما تزعمون فقولوا حينئذ انه ( الرجل الصالح ) كما قال عاموص ، وليس بالإله المعبود . وإما أن يريد بالمبيع غيره وهو الذي شبه لليهود فابتاعوه وصلبوه . ويلزمكم وقتئذ إنكار صلوبية عيسى عليه السلام . كيف لا ونصوص الانجيل والكتب النصرانية متضافرة دالة على عدم الصلب لعيسى عليه السلام . ووقوع الشبه على غيره . وذلك من وجوه :
أحدها : يوجد في الانجيل أن عيسى عليه السلام صعد إلى جبل الجليل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا . فبينما هو يصلي إذ تغير منظر وجهه عما كان عليه وابيضت ثيابه فصارت تلمع كالبرق . وإذا بموسى بن عمران وايليا قد ظهرا له وجاءت سحابة فأظلتهم . فوقع النوم على الذين معه . فأي مانع يمنع من أن يكون ذلك قد وقع في اليوم الذي طلبته فيه اليهود . وإنما قد اختلفتم في نقلها كما اختلفتم وتناقضتم في غير ذلك . وغيرتم الكلم عن مواضعه . وظهور الأنبياء عليه السلام وتظليل السحابة ووقوع النوم على التلاميذ ، يكون حينئذ دليلا ظاهرا على الرفع إلى السماء وعدم الصلب . وإلا فلا معنى لظهور هذه الآيات .
وثانيها : ما في الانجيل أيضا أن المصلوب قد استسقى اليهود فأعطوه خلا مضافا بمر . فذاقه ولم يشربه . فنادى : الهي الهي لم خذلتني ؟ والأناجيل كلها مصرحة بأنه عليه السلام كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة . ويقول للتلاميذ : إن لي طعاما لستم تعرفونه . ومن يصبر على العطش والجوع أربعين يوما وليلة كيف يظهر الحاجة والمذلة لأعدائه بسبب عطش يوم واحد ؟ هذا لا يفعله أدنى الناس ، فكيف بخواص الأنبياء ؟ أو كيف بالرب على ما تدعونه ؟ فيكون حينئذ المدعي للعطش غيره . وهو الذي شبه لكم .
وثالثها : قوله : الهي الهي لم خذلتني وتركتني ؟ هو كلام يقتضي عدم الرضا بالقضا ، وعدم التسليم لأمر الله تعالى . وعيسى عليه السلام منزه عن ذلك . فيكون المصلوب غيره . لا سيما وأنتم تقولون : إن المسيح عليه السلام إنما نزل ليؤثر العالم على نفسه ، ويخلصه من الشيطان ورجسه . فكيف تروون عنه ما يؤدي إلى خلاف ذلك ، مع روايتكم في توراتكم أن إبراهيم وإسحاق وموسى وهارون ، عليهم السلام ، لما حضرهم الموت كانوا مستبشرين بلقاء ربهم ، فرحين بانقلابهم إلى سعيهم ، لم يجزعوا من الموت ولم يستقيلوا منه . ولم يهابوا مذاقه . مع أنهم عبيده . والمسيح بزعمكم ولد ورب . فكان ينبغي أن يكون أثبت منهم . ولما لم يكن كذلك دل على أن المصلوب غيره ، وهو الذي شبه لكم .
فيما روي عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم
قال الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى في ( تفسيره ) هنا ما نصه : وكان من خبر اليهود ، عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه ، أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى ، حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات . التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى باذن الله . ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه باذن الله عز وجل . إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه . ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم . حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة . بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام . ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان ، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته اليونان ، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه . فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور . وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه . ويكف أذاه عن الناس . فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك ، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام . وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفرا . وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت . فحصروه هنالك . فلما أحس بهم ، وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم ، قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم . فكأنه استصغره عن ذلك . فأعادها ثانية وثالثة . وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب . فقال : أنت هو . وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو . وفتحت روزنة من سقف البيت . وأخذت عيسى سنة من النوم فرفع إلى السماء . وهو كذلك كما قال الله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي . . . ) الآية .
فلما رفع ، خرج أولئك النفر . فلما رأى أولئك النفر ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه . وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك . وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك ، لجهلهم وقلة عقلهم . ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه . وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم . حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت . ويقال انه خاطبها . والله أعلم . وهذا كله من امتحان الله عباده ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة . وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات ، والدلائل الواضحات ، فقال تعالى وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، المطلع على السرائر والضمائر ، الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، العالم بما كان ويكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) {[2573]} . أي : رأوا شبهه فظنوا أنه إياه . ولهذا قال : ( وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) {[2574]} . يعني بذلك من ادعى انه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى . كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر . ولهذا قال : ( وما قتلوه يقينا ) {[2575]} . أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين : ( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا ) {[2576]} . أي : منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه . ( حكيما ) أي : في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها . وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان . حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن أبن عباس قال : " لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين . يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء . فقال : إن منكم من يكفر بي اثنى عشر مرة بعد أن آمن بي . قال ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب . فقال : اجلس . ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا فقال : هو أنت ذاك . فألقي عليه شبه عيسى . ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء . قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه . فكفر به بعضهم اثني عشر مرة بعد أن آمن به . وافترقوا ثلاث فرق . فقالت فرقة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء . وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه إليه . وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه . وهؤلاء المسلمون . فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها . فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم " . وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس . ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية نحوه . وكذا غير واحد من السلف أنه قال لهم : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة ؟
/ وقال ابن جرير {[2577]}حدثنا ابن حميد . حدثنا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن وهب بن منبه قال : " أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت . فأحاطوا بهم . فلما دخلوا عليه صورهم الله عز وجل كلهم على صورة عيسى . فقالوا هم : سحرتمونا . لتبرزن لنا عيسى أو نقتلنكم جميعا . فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا . فخرج إليهم وقال : أنا عيسى . وقد صوره الله على صورة عيسى . فأخذوه فقتلوه وصلبوه . فمن ثم شبه لهم فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى . وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى . ورفع الله عيسى من يومه ذلك " . قال ابن كثير : وهذا سياق غريب جدا . ثم قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول وهو {[2578]}ما حدثني المثنى . حدثنا اسحاق . حدثنا اسماعيل عن عبد الكريم . حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول : " إن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه . فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال : احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة . فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم . فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه . فتعاظموا ذلك وتكارهوه . فقال : ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة . فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعاظم بعضكم على بعض وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم . وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها ، فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي . فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء . فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله ! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها . فقالوا : والله ! ما ندري ما لنا ؟ لقد كنا نسمر فنكثر السمر ما نطيق الليلة سمرا . وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه . فقال : يذهب بالراعي وتتفرق الغنم . وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى نفسه . ثم قال : الحق ، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات . وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني ! فخرجوا فتفرقوا . وكانت اليهود تطلبه . وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا : هذا من أصحابه . فجحد وقال : ما أنا بصاحبه . فتركوه . ثم أخذه آخرون فجحد كذلك . ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه . فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما . فأخذها ودلهم عليه . وكان شبه عليهم قبل ذلك . فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل . فجعلوا يقودونه ويقولون له : أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك . حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها . فرفعه الله إليه . وصلبوا ما شبه لهم . فمكث سبعا . ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب . فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ فقلتا : عليك . فقال : إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير . وان هذا شيء شبه لهم . فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا . فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر . وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود فسأل عنه أصحابه فقالوا : انه ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه . فقال : لو تاب لتاب الله عليه . ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له يحنى . فقال : هو معكم ، فانطلقوا فإنه يصبح كل إنسان يحدث بلغة قوم . فلينذرهم وليدعهم " .
قال ابن كثير : سياق غريب جدا . وقال ابن جريج عن مجاهد : " صلبوا رجلا شبه بعيسى . ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء " .
أن إلقاء الشبه يفضي إلى السفسطة
قال خير الدين في ( الجواب الفسيح ) قال النصارى : القول بإلقاء الشبه على عيسى عليه السلام قول يفضي إلى السفسطة ، والدخول في الجهالات ، وما لا يليق بالعقلاء . لأنا إذا جوزنا ذلك فينبغي إذا رأى الإنسان ولده أو زوجته لم يثق بأنه ولده أو زوجته . وكذلك سائر المعارف . لا يثق الإنسان بأحد منهم ولا يسكن إليه . ونحن نعلم بالضرورة أن الإنسان يقطع بأن ولده هو ولده . وان كل واحد من معارفه هو ، من غير شك ولا ريبة . بل القول بالشبه يمنع الوثوق بمدينة الإنسان ووطنه إذا دخله . ولعله مكان آخر ألقي عليه الشبه . بل إذا غمض الإنسان عينه عن صديقه بين يديه لحظة ، ثم فتحها ، ينبغي أن لا يقطع بأنه صديقه . لجواز إلقاء الشبه على غيره . وكل ذلك خلاف الضرورة . فالقول بإلقاء الشبه على غير عيسى خلاف الضرورة . كالقول بأن الواحد نصف العشرة مثلا ، فلا يسمع .
أحدها : أن هذا تهويل ليس عليه تعويل . بل البراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة قائمة على أن الله تعالى خلق الإنسان وجملة أجزاء العالم . وان حكم الشيء حكم مثله : فما من شيء خلقه الله تعالى في العالم إلا هو قادر على خلق مثله . لتعذر خلقه في نفسه . فيلزم أن يكون خلق الإنسان مستحيلا . بل جملة العالم . وهو محال بالضرورة . وإذا ثبت أن الله تعالى قادر على خلق مثل لكل شيء في العالم ، فجميع صفات جسد عيسى عليه السلام لها أمثال في حيز الإمكان في العدم ، يمكن خلقها في محل آخر غير جسد المسيح . فيحصل الشبه قطعا . فالقول بالشبه قول بأمر ممكن . لا بما هو خلاف الضرورة . ويؤنس ذلك أن التوراة مصرحة بأن الله تعالى خلق جميع ما للحية في عصا موسى عليه السلام . وهو أعظم من الشبه . فإن جعل حيوان يشبه حيوانا ، وإنسان يشبه إنسانا –أقرب من جعل نبات يشبه حيوانا . وقلب العصا مما أجمع عليه اليهود والنصارى . كما أجمعوا على قلب النار بردا وسلاما . وعلى قلب لون يد موسى عليه السلام .
وعلى انقلاب الماء خمرا وزيتا للأنبياء عليهم السلام . وإذا جوزوا مثل هذا فيجوز إلقاء الشبه من غير استحالة . على أن عيسى عليه السلام قد خولفت عادة الله تعالى الأغلبية في خلقه من ماء واحد . ونفخ جبريل في جيب مريم . فجعل شبهه على غيره ليس بأبعد عن العادة ، من خلقه . على أن إحياءه للموتى وإبراءه للأبرص والأكمه أعظم من إلقاء شبهه على غيره . على أن عروجه إلى السماء بناسوته وخرق السماء والتئامها ، ليس بأهون من ذلك . على أن رد الشمس ليوشع بن نون ، ومشي عيسى وحواريه على الماء ، وسائر معجزات أنبياء بني اسرائيل ، ليس بأهون مما هنالك . وإذا صح عند النصارى انقلاب الخبز إلى جسد المسيح ، والخمر إلى دمه في العشاء السري ، لم لا يمكن أن يوقع شبهه على أحدهم ؟ كما لا يخفى .
وثانيها : أن الانجيل ناطق بأن المسيح عليه السلام نشأ بين ظهراني اليهود . وحضر مرارا عديدة في مواسمهم وأعيادهم وهياكلهم . يعظهم ويعلمهم ويناظرهم . ويتعجبون من براعته وكثرة تحصيله . حتى إنهم ( كما في الانجيل ) يقولون : أليس هذا ابن يوسف ؟ أليست أمه مريم ؟ أليس إخوته عندنا ؟ فمن أين له هذه الحكمة ؟ وإذا ، كان في غاية الشهرة والمعرفة عندهم . وقد نص الانجيل على أنهم عند ارادة الصلب لم يحققوه ، حتى دفعوا لتلميذه ثلاثين درهما ليدلهم عليه . فما حاجتهم حينئذ أن يكتروا رجلا من تلاميذه ليعرفهم شخصه ؟ لولا وقوع الشبه الذي نقول به .
وثالثها : أنه كما تقدم في الأناجيل ، أخذ في حندس من الليل المظلم في حالة وشوهت صورته وغيرت محاسنه وهيئته ، بالضرب والسحب وأنواع النكال الموجبة لتغير الحال . ومثل ذلك يوجب اللبس بين الشيء وخلافه . فكيف بين الشيء وشبهه ؟ حتى أن رئيس الكهنة عند احضاره أقسم عليه هل هو يسوع المسيح ابن الله ؟ فلم يجبه . ولو كان هو لأجابه . فمن أين للنصارى واليهود القطع بأن المصلوب هو عين عيسى عليه السلام دون شبهه ؟ بل إنما يحصل الظن والتخمين كما قال تعالى في كتابه المبين : ( وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ) .
رابعها : قد تقدم في الأناجيل انه لما جاء اليهود إلى محله خرج إليهم وقال : من تريدون ؟ قالوا : يسوع . وقد خفي شخصه عليهم . ففعل ذلك مرتين وهم ينكرون صورته . وهذا دليل الشبهة ، ورفع عيسى عليه السلام . ولا سيما وقد نقل غير واحد من العلماء عن بعض النصارى القول بان المسيح عليه السلام كان قد أعطي قوة التحول من صورة إلى صورة .
خامسها : قول متى في ( الفصل الخامس والعشرين ) من ( انجيله ) ما لفظه : حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون في هذه الليلة . لأنه مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية . ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل . فأجاب بطرس وقال له : وان شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدا . قال له يسوع : الحق أقول لك . انك هذه الليلة ، قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات . انتهى .
فقد شهد عليهم بالشك . بل خيرهم بطرس الذي هو خليفة عليهم ، شك . فقد انخرمت الثقة بأقوالهم . وصح قوله تعالى : ( وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن ) .
سادسها : إن في ( الفصل السابع والعشرين ) من ( انجيل متى ) ما لفظه : حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ . قائلا : قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا . فقالوا : ما علمنا : أنت أبصر . فطرح الفضة في الهيكل وانصرف . ثم مضى وخنق نفسه . انتهى .
فهذه الأناجيل ليست قاطعة في صلبه . بل فيها اختلافات . فيحتمل أن يهوذا كذب عليهم في قوله : ( هو هذا ) ويدل على وقوع ذلك ، ويقر به ظهور ندمه بعد هذا . ولا سيما / وهو من جملة الاثني عشر الذين شهد لهم المسيح بالسعادة الأبدية . والسعيد لا يتم منه مثل هذا الفساد العظيم . فيلزم اما أن يهوذا ما دل عليه ، أو كون المسيح ما شهد لهم بالسعادة الدائمة . أو ان أناجيلهم محرفة مبدلة . ويحتمل أن احد أتباع المسيح باع نفسه من الله تعالى وقاية للمسيح عليه السلام . وادعى أنه هو . ومثل هذا كثير في أتباع الأنبياء . حيث يريدون أن يفدوا أنفسهم بدل أنبيائه . ويحتمل أن الأعوان أخذوا عليه رشوة وأطلقوه ، وأخذوا بدله . كما أن يهوذا ، مع أنه صديقه ورسوله ، أخذ رشوة ودلهم عليه . ويحتمل أن الله تعالى أرسل شيطانا على صورته وصلبوه . ويحتمل أن الملك الذي نزل عليه ليقويه ، كما تقدم في ( انجيل لوقا ) بزعمهم ، صار فداء له . ويحتمل أن هذا الذي نزل انما نزل لرفعه . لأنه لو كان نازلا لتقويته لقواه . فلما لم نر أنه قواه فيقتضي أنه رفعه إلى السماء ، أو فدى نفسه له .
وقال بعض الأفاضل : ومن الأدلة على رفعه وصلب شبهه ما في الفصل التاسع من ( انجيل لوقا ) ما لفظه : أن المسيح صعد إلى جبل ليصلي وأخذ بطرس ويوحنا ويعقوب معه . وفيما هو يصلي صارت هيئته ووجهه متغيرة ، ولباسه مضيئا لامعا . الخ .
فهذا فيه دلالة على رفعه وحصول الشبه الذي نقول به . إذ لا معنى لظهور موسى وايلياء ، ووقوع النوم على أصحابه ، وتغير وجهه واضاءة لباسه ، الا رفعه . ورؤيتهم له بعد ذلك ، انما هو من تطور روحه . لأنه عليه السلام كان له قوة التطور : وهذا من أحكام الروح والنفس .
ولئن قلنا انه لا يدل على الرفع بالوجه التام ، غير أنا نتنزل ونقول : ما دام في هذه المرة تغيرت هيئته ووجهه ولباسه ، واجتمع بالأنبياء وسمع من الغمامة هذا الصوت ، فلا أقل من أن يكون ذلك مقدمة لرفعه ومقياسا ، ومبدأ لتقويته وايناسا . واليهود لم يتحققوا من أنفسهم أنه هو المسيح . بل اعتمدوا على قول يهوذا كما تقدم لك . ويهوذا قوله قول فرد ، وغير صالح للاحتجاج . للاحتمالات والأدلة التي ذكرناها لك . فلم يبق في قول الفرقتين حجة أن المصلوب هو المسيح عليه السلام ، لا شبهه . وأناجيلهم حالها معلوم لديك . وبيان اشتباههم المحكي لك في القرآن ، لا يخفى عليك . انتهى .
وهنا سؤال يورده بعض النصارى وهو : أن عيسى عليه السلام إذا كان لم يصلب حقيقة ، وانما صلب رجل ألقي عليه شبهه ، ورفع هو إلى السماء ، فلم لم يخبر الحواريين بذلك قبل رفعه أو بعده ؟
والجواب : أن عيسى عليه السلام لم يخبر بذلك لعلمه بأن أناسا سيفترون عليه ويقولون بألوهيته . فأبهم الأمر ليكون ذلك أدل على كونه عبدا من عبيد الله . لا يقدر على جلب نفع ولا دفع ضر . بخلاف ما لو أخبر أنه لا يصلب ، وأن المصلوب شبهه ، فإنه ربما كان ذلك مقويا لشبهة أولئك الجماعة . ولعدم كون هذه المسألة من المسائل الاعتيادية في الأصل . إذ لو اعتقد أحد ، قبل إرسال نبينا عليه الصلاة والسلام ، بصلب عيسى ، لم يضره ذلك . لكن لما ورد نبينا الذي لا ينطق عن الهوى ، أبان خطأ النصارى في الوجهين :
والأخر : اعتقاد أنه قد قتل وصلب . وأبان انه عبد من عبيد الله تعالى تولاه بالرسالة ، واصطفاه وحفظه من أيدي أعدائه وحماه ، كذا في ( منية الإذكاء في قصص الأنبياء ) .
في سقوط دعواهم التواتر في أمر الصلب
قال القرافي : اعلم أن النصارى قالوا : انهم واليهود أمتان عظيمتان طبقوا مشارق الأرض ومغاربها . وكلهم يخبر أن المسيح عليه السلام صلب . وهم عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب . والانجيل أيضا مخبر عن الصلب . فإن جوزتم كذبهم ، وكذب ما يدعى أنه الانجيل ، وان مثل هؤلاء ممكن تواطؤهم على الكذب –لزم المحال من وجوه :
أحدها : أنه يتعذر عليكم أيها المسلمون ، جعل القرآن متواترا .
وثانيها : أن قاعدة التواتر تبطل بالكلية . فإن غاية خبر التواتر يصل إلى مثل هذا .
وثالثها : أن إنكار الأمور المتواترة . جحد للضرورة ، فلا يسمع . فلو قال إنسان : الخبر عن وجود بغداد ودمشق كذب ، لم يسمع ذلك منه ، وعد خارجا عن دائرة العقلاء . وحينئذ يتعين أن القول بالصلب حق وأن إخبار المسلمين والقرآن عن عدم ذلك ، مشكل .
والجواب من وجوه : أحدها : أن جميع النصارى واليهود يوردون هذا السؤال ولا يعلمون حقيقة التواتر ولا شروطه . وإنما فهم ذلك وغيره هذه الأمة المحمدية والملة الإسلامية ، لعلو قدرها وشرفها واختصاصها بمعاقد العلوم وأزمتها . دون غيرها . كما هو مسلم عند كل دري ( كذا ) منصف . وها نحن نوضح ذلك إن شاء الله تعالى فنقول : إن التواتر له شروط :
الشرط الأول : أن يكون المخبر عنه أمرا محسوسا . ويدل على اعتبار هذا الشرط ، أن الأمة العظيمة قد تخبر عن القضايا الجسيمة وهي باطلة . كإخبار المعطلة عن عدم الصانع والفلاسفة عن قدم العالم . مع بطلان ذلك عند أمم كثيرة . وسببه أن مجال النظر يكثر فيه وقوع الخطأ . فلا يثق الإنسان بالخبر عن العقليات ، حتى ينظر فيجد البرهان العقلي يعضد ذلك الخبر . فحينئذ يقطع بصحة ذلك الخبر . أما الأمور المحسوسة ، مثل المبصرات ونحوها فشديدة البعد عن الخطأ . وإنما يقع الخلل من التواطؤ على الكذب . فإذا كان المخبرون يستحيل تواطؤهم على الكذب حصل القطع بصحة الخبر .
الشرط الثاني : استواء الطرفين والواسطة . وتحرير هذا الشرط أن المخبرين لنا ، إذا كانوا يستحيل تواطؤهم على الكذب وكانوا هم المباشرين لذلك الأمر المحسوس ، المخبر عنه ، حصل العلم بخبرهم . وان لم يكن المخبر لنا هو المباشر لذلك الأمر المحسوس ، بل ينقلون عن غيرهم أنه أخبرهم بذلك ، فلا بد أن يكون الغير المباشر عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإن جاز الكذب عليه ، وهو أصل هؤلاء المخبرين لنا ، فإذا لم يبق الأصل لم يبق المفرع عليه . فلا يلزم من كون المخبر لنا يستحيل تواطؤهم على الكذب حصول العلم بخبرهم . لجواز فساد أصلهم المعتمدين عليه . فيتعين أن يكون الأصل عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب . فهذا معنى قولنا : ( استواء الطرفين ) في كونهما عددا يستحيل تواطؤهما على الكذب –شرط . فإن كان المخبر لنا عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وأصلهم الذي ينقلون عنه كذلك ، عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب أيضا . لما تقدم . وفي هذه الصورة حصل طرفان وواسطة . فالطرفان المخبر لنا . والمباشر الأول الواسطة الذي بينهما . فيجب استواء الطرفين والواسطة . والوسائط تكثرت في كونهم عددا يستحيل تواطؤهم على الكذب . فينقسم ، بهذا التحرير ، التواتر إلى طرف فقط ، والى طرفين بلا واسطة ، والى طرفين وواسطة . والثلاثة أقسام مشتركة في هذا الشرط . فإذا تقرر حقيقة التواتر فنقول : الحس إنما يتعلق بأن هذا مصلوب على هذه الخشبة . وأما أنه عيسى عليه السلام نفسه أو غيره ، فهذا لا يفيده الحس البتة . بل إنما يعلم بقرائن الأحوال إن وجدت ، أو بأخبار الأنبياء عليهم السلام عن الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا . والذي يدل على أن الحس لا يفرق بين المتماثلات ، أنا لو وضعنا في إناء رطلا من الماء مثلا . وأريناه لانسان ، ثم رفعنا ذلك الماء ووضعنا فيه رطلا آخر من ذلك الماء ثم أريناه ذلك الانسان . وقلنا له : هذا الماء هو عين الماء الأول أو مثله ؟ فإنه إذا أنصف يقول : الذي أدركه بحسي أن هذا ماء بالضرورة . أما أنه عين الأول أو غيره مماثلا له ، فلا أعلم . لكون الحس لا يحيط بذلك . هذا في المائعات . وكذلك كف من تراب أو أوراق الأشجار أو أنواع الحبوب . كالحنطة مثلا . إذا أخذ منها حفنتان ونحو ذلك . وكذلك الحيوانات الوحشية والطيور شديدة الالتباس على الحس . إذا اتحد النوع في اللون والسن والغلظ . وإنما كثرت الفروق في الحيوانات الإنسية كالفرس ونحوها .
وسر ذلك أن أسباب النشأة في الوحشية مشتركة بالمياه والمراعي والبراري . والحيوان الانسي يختلف ذلك فيه ، بحسب مقتنيه ، اختلافا كثيرا . فينشأ بحسب دواعي بني آدم في السعة والضيق ، وايثار نوع من العلف على غيره ، ومكان مخصوص على غيره ، وإلزام الحيوان أنواعا من الأعمال والرياضة دون غيرها ، فيختلف الحيوان الانسي بحسب ذلك . ثم يتصل ذلك بالنطف في التوليد . مضاف إلى ما يحصل للولد من داعية مريبة فيعظم الاختلاف . والحيوان الوحشي سلم عن جميع ذلك . فتشابهت أفراد نوعه . ولا يكاد الحس يفرق بين اثنين منه البتة . فإذا تقرر أن الحس لا سلطان له على الفرق بين المثلين ، ولا التمييز بين الشيئين ، فيجب القطع أن كون المصلوب هو خصوص عيسى عليه السلام دون شبهه أو مثله –ليس مدركا بالحس . وإذا لم يكن مدركا بالحس ، جاز أن يخرق الله تعالى العادة لعيسى عليه السلام شبهه في غيره . كما خرق له العادة في إحيائه الموتى وغيره . ثم يرفعه ويصونه عن اهانة أعدائه . وهو اللائق بكريم آلائه . في إحسانه لخاصة أنبيائه وأوليائه . وإذا جوز العقل مثل هذا مع أن الحس لا مدخل له في ذلك ، بقي إخبار القرآن الكريم عن عدم الصلب سالما عن المعارض . مؤيدا بكل حجة . وسقط السؤال بالكلية .
وثانيها : سلمنا أن الحس يتعلق بالتفرقة بين المثلين . والتمييز بين الشبهين . لكن لا نسلم أن العدد المباشر للصلب كانوا بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب . ويدل على أنهم ليسوا كذلك ، أن الحواريين فروا عنه . لأنه لو وجد أحد منهم لقتله اليهود . فحينئذ عدد التواتر متعذر من جهة شيعة النصارى عن أسلافهم . لا يفيد علما بل هو ظن وتخمين لا عبرة به . لذلك قال الله سبحانه في قرآنه المبين : ( وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ) . أي : هم لا يتيقنون ذلك . بل يحزرون بالظن والتخمين . وأما من جهة الملة اليهودية ، فلأن المباشر منهم للصلب إنما هو الوزعة واعوان الولاة . وذلك في مجرى العادة يكون نفرا قليلا . كالاثنين أو الثلاثة ونحوها . يجوز عليهم الكذب ولا يفيد خبرهم العلم بكون العادة وخرج الصلب عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب يفتقر إلى نقل متواتر . فإنه لو وقع ونقل بأخبار الآحاد لم يحصل لنا علم بالصلب . فإن المتواترات إذا نقلت بأخبار الآحاد ، سقط اعتبارها في إفادة العلم . لجواز كذب الناقل . فلا يكون عدد التواتر حاصلا في نفس الأمر . والنصارى واليهود إنما يعتمدون على التوراة والانجيل . ولا يوجد يهودي ولا نصراني على وجه الأرض يروى التوراة والانجيل ، عدلا عن عدل ، إلى موسى وعيسى عليهما السلام . وإذا تعذرت عليهم رواية العدل عن العدل ، فأولى أن يتعذر التواتر . ولم يبق في الكتابين إلا أخبار وتواريخ بعيدة الزمان جدا . بحيث أن التواريخ الإسلامية أصح منها ، لقرب عهدها . مع أنه لا يجوز الاعتقاد في فروع الديانات على شيء من التواريخ . فضلا عن أصول الأديان . وإذا ظهر أن مستند هاتين الأمتين العظيمتين في العدد ، في غاية الضعف –كانت أخبارها في نفسها في غاية الضعف . لأن الفرع لا يزيد على أصله .
وثالثهما : أن نصوص الانجيل مشعرة بعدم صلب عيسى عليه السلام بخصوصه . كما نقلنا بعضها آنفا . وقال في ( تخجيل الأناجيل ) : فيقال للنصارى : ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه ، أتنقلونه تواترا أم آحادا ؟ فإن زعموا أنه آحاد لم يقم بذلك حجة ، ولم يثبت العلم الضروري . إذ الآحاد لم يأمن عليهم فيها السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب . وإذا كان الآحاد يعرض عليهم ذلك ، فلا يحتج بهم في القطعيات . وان عزوا ذلك إلى التواتر ، قلنا لهم : شرط التواتر استواء الطرفين فيه والوسط . وهو أن ينقل الجم الغفير عن الجم الغفير الذين شاهدوا المشهود به ، وهو المصلوب . وعلموا أنه هو ضرورة . فإن اختل شيء من ذلك فلا تواتر . فإن زعم النصارى أن خبرهم في قتل المسيح وصلبه بهذه الصفة ، أكذبتهم صوص أناجيلهم التي بأيديهم . إذ قال لهم نقتلها الذين دونوها لهم وعليها معولهم : انه لما أخذ فقتل كان في شرمذة يسيرة من تلاميذه . فلما أقبل عليه هربوا بأسرهم . ولم يتبعه الا بطرس من بعيد . ولما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إلى بطرس فعرفته . فقالت : هذا كان مع يسوع . فحلف أنه لا يعرف يسوع بقوله . وخادعهم حتى تركوه . وذهب ولم يكد يذهب . وان شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به . فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا . فهؤلاء أصحابه وأتباعه ، لم يحضر منهم ولا رجل واحد بشهادة أناجيلهم . وأما أعداؤه اليهود ، الذين تزعم النصارى أنهم حضروا الأمر ، فلم يبلغوا عدد التواتر . بل كانوا آحادا وأفرادا . لأن عموم الناس الذين حضروا لا يرون إلا شخصا على خشبة ومعه لصان مصلوبان . ولا شك أن هيئتهم وصفتهم متغيرة عن الحالة التي قبل أخذهم . وأما المشايخ ونحوهم فلم يعرفوه أيضا . ففي الأصحاح الثاني والعشرين من ( انجيل لوقا ) ما لفظه : فلما كان النهار اجتمع مشايخ الشعب ورؤساء الكهنة وأدخلوه إلى مجمعهم . وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقل لنا . قال لهم : إن قلت لكم لم تؤمنوا لي . وان سألتكم لم تجيبوني ولم تخلوني . انتهى .
وهذا يحتمل أنهم يسألونه عن ذاته أو عن رسالته . على أنا لو سلمنا كثرة عددهم وصدق معرفتهم فيمكن تواطؤهم على الكذب . لأنهم لما لم يجدوه هو ، ولم يعلموا محل المسيح ، وكان ذلك من تلاميذه ، واستحلوا قتله أيضا ، أشاعوا أنه هو المسيح ليترك الناس متابعته ، ولئلا يتخذوا المسيح نبيا . وصمموا ، أنهم إذا وجدوا المسيح بعد هذا أيضا ، يعملون به كما عملوا بصاحبه . ويؤيد هذا أنهم جعلوا على القبر حراسا لئلا ينبش القبر ويرى أنه غير المسيح . ومما يزيد الأمر وضوحا قول ( انجيل متى ) في ( الأصحاح الثامن والعشرين ) : أن مريم لما جاءت لزيارة القبر رأت ملكا قد نزل من السماء برجة عظيمة . فدحرج الحجر عن فم القبر . وجلس عنده . فكاد الحراس أن يموتوا من هيبته . وبادروا من فورهم إلى المشايخ فأعلموهم بالقصة . فأرشاهم المشايخ برشوة أن يستروا القصة وأن يشيعوا أن التلاميذ سرقوه ونحن نيام . فما يؤمنكم أن تكون هذه العصابة من اليهود . كما أنهم ستروا الآية التي ذكرتم ، صلبوا شخصا من أتباعه وأوهموا الناس أنه المسيح . فإذا تبين عدم الاحتجاج باجماع اليهود والنصارى الآن على صلبه ، فنرجع إلى القرائن العقلية والنقلية . فأما العقل فلا يجوز أن الإله القادر على كل شيء يقتله أذل عباده ، وهم اليهود . ويضربونه ويعملون به ما هو محرر في أناجيل النصارى المضطربة المحرفة المكتوبة بعد رفعه بسنين عديدة وأعوام مديدة . مع أنه يفر منهم مرات كثيرة ويستغيث ويطلب من الله تعالى تأخير أجله بقوله : أجز عني هذه الكاس . ويصرخ ويقول : إلهي ! إلهي ! لم تركتني ؟ ويسلم روحه . وعند الصلب يطلب منهم الماء لكثرة عطشه . فيعطوه خلا بدله . وأي خلاص لعباده في هذه الحالة ، وهو بزعمهم أتى ليخلص العالم من الخطيئة . بل صار موقعا لهم في الاثم بسبب عدم ايمانهم به . فكيف يكون مخلصا بنفسه ؟ وأما النقل ، فقد تبين لك تهافت أناجيلهم واضطرابها ، والدلالة على عدم المعرفة به ، وعدم وجوده في قبره . والأعظم من ذلك عند كل ذي عقل سليم قوله تعالى : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) . وأما قول متى في ( الأصحاح السابع والعشرين ) : فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح ، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت والقبور تفتحت ، وقام كثير من الأجساد القديسين الراقدين ، وخرجوا من القبور بعد قيامته ، ودخلوا المدينة المقدسة ، وظهروا للكثيرين –فهو قول بهت ومحال . لا يخفى بطلانه على ذوي العقول من النساء والرجال . لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله . ولم يتفق إخفاء مثله . ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع . فحيث داموا على الجحد له والتكذيب ، دل على كذب ما نقله عباد الصليب . وإذا كان اليهود أعطوا دراهم رشوة ، كما علمت سابقا ، لحراس القبر حتى لا يخبروا القائد وسائر الناس بملك نزل من السماء على قبر يسوع ، كي لا يظن براءته مما نسب إليه أعداؤه ، فكيف تكون هذه الآيات العظيمة ؟ وتقوم الأموات من قبورها ؟ ويدخلون المدينة ؟ ولا يكون ذلك حجة على من لا يؤمن به إذ ذاك ؟ وأيضا ، ما معنى تفتح القبور وقيام القديسين من قبورهم ؟ فهل كان استبشارا بمصابه ؟ فهم إذ ذاك ليسوا من أحبابه . أو كان جزعا على مماته ؟ وخرجوا إعانة له قبل قواته ؟ فواعجبا لرب أحياهم بعد أن كانوا رفاتا . ولم يعينوه حتى قضى ومات . وأحيى الرمم ، وصرخ عند تسليم الروح . ولم يقدر على ابراء ما فيه من جروح . وليت شعري ما عمل هؤلاء القديسون ؟ أبقوا في المدينة المقدسة ؟ أم كروا إلى قبورهم فهم راجعون ؟ وهل التأم الهيكل والصخور ؟ أم دامت على انشقاقها إلى كثير من الدهور ؟ فإن قيل : إنما لم يشتهر ذلك ، لأن أصحاب المسيح لم يحضر منهم احد خوفا من اليهود ، والذين شاهدوا هذه الآيات من اليهود تواطؤوا على الكتمان حسدا وبغيا . قلنا : مثل هذه الآيات العظيمة إذا وقعت ، علمها من حضر ومن غاب ، من الأعداء والأحباب . لأنها آيات نهارية . ومعجزات تشتهر في البرية . ويتناقلها أهل البلدان . وتبقى مؤرخة بكل لسان . في سائر الملل بكل أرض وزمان . فعلم بالضرورة أن هذه الأقوال . مما اخترعها وحررها أئمة الضلال . ليخدعوا بها ضعفاء العقول . ويتوصلوا إلى جذب الدنيا بالكذب على هذا الرسول . انتهى .
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه ( الملل ) عند الكلام على النصارى : ومما يعترض به علينا اليهود والنصارى ، ومن ذهب إلى إسقاط الكواف ( جمع كافة ) من سائر الملحدين ، أن قال قائلهم : قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل . وجاء القرآن بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل ولم يصلب . فقولوا لنا : كيف كان هذا ؟ فإن جاوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس ، نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه . فإن قلتم : اشتبه عليهم فلم يتعمدوا نقل الباطل ، فقد جوزتم التلبيس على الكواف . فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها . فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم ، وقولوا لنا : كيف فرض الاقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله ؟ فإن قلتم : كان الفرض على الناس الاقرار بصلبه ، وجب من قولكم الاقرار أن الله فرض على الناس الاقرار بالباطل . وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به . وفي هذا ما فيه . وان قلتم : كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه ، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب / الكواف . وفي هذا ابطال قول كافتكم . بل إبطال جميع الشرائع . بل ابطال كل خبر كان في العالم ، عن كل بلد وملك ، ونبي وفيلسوف وعالم ، ووقعتم . وفي هذا ما فيه .
وقال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الالزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى . ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته .
فنقول وبالله التوفيق : ان صلب المسيح لم يقله قط كافة . ولا صح بالخبر قط . لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي اما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ ، لتنابذ طرقهم ، وعدم التقاءهم ، وامتناع اتفاق خواطرهم ، على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة ، أو رجع إلى مشاهدة ، ولو كانوا اثنين فصاعدا . واما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على السنن ما تواطؤوا عليه ، فأخبروا بخبر شاهدوه ، ولم يختلفوا فيه ، فما نقلوه أحد أهل هاتين الصفتين على مثل احداهما . وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة . فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ، ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه . وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفارا . ولا يقطع على صحته الا ببرهان . فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام ، فوجدناه كواف عظيمة . صادقة بلا شك في نقلها جيل بعد جيل . إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه . فإن هناك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين . مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل . والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة . وانهم أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح . وأنه لم يبق في الخشبة الا ست ساعات من النهار . وانه أنزل أثر ذلك . وأنه لم يصلب الا في مكان نازح عن المدينة . في بستان فخار متملك للفخار . ليس موضعا معروفا بصلب من يصلب . ولا موقوفا لذلك . وأنه بعد هذا كله رشي الشرط على أن يقولوا ان أصحابه سرقوه . ففعلوا ذلك . وان مريم المجدلانية ، وهي امرأة من العامة ، لم تقدم على حضور موضع صلبه . بل كانت واقفة على بعد تنظر . هذا كله في نص الانجيل عندهم . فبطل ان يكون صلبه منقولا بكافة . بل بخبر يشهد ظاهره على انه مكتوم متواطأ عليه . وما كان الحواريون ليلتئذ ، بنص الانجيل ، إلا خائفين على أنفسهم ، غيبا عن ذلك المشهد ، هاربين بأرواحهم مستترين . وان شمعون الصفا غرر ودخل قيقان الكاهن بضوء النهار . فقال له : أنت من أصحابه ؟ فانتفى وجحد وخرج هاربا عن الدار . فبطل ان ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه . على أن نظن به الصدق . فكيف أن ينقله كافة . وهذا معنى قوله تعالى : ( ولكن شبه لهم ) . إنما عنى تعالى ان أولئك الفساق ، الذين دبروا هذا الباطل ، وتواطؤوا عليه ، هم شبهوا على من قلدهم . فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه . وهم كاذبون في ذلك . عالمون إنهم كذبة . ولو أمكن إن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة ، لبطلت النبوات كلها . إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة . ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها . ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس . وفي حيث هو فلعله نائم ، أو مشبه على حواسه . وفي هذا خروج إلى السخف وقول السفسطائية والحماقة . وقد شاهدنا نحن مثل ذلك . وذلك أننا أنذرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر . ورأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن . وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة ، في بيت . وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد . ثم صلينا في ألوف من الناس عليه . ثم لم يلبث شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيا . وبويع بعد ذلك بالخلافة . ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه . ورأيته . وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام .
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما قوله : قد جوزتم التمويه على الكافة ، فقد بينا أنها لم تكن كافة قط . وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس ؟ فهو ضرورة على الممكنات . فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم ، حاكما على حواسهم ومحيلا لها . كخروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش . وقد حجب الله تعالى أبصارهم عنه فلم يروه . وأما ما لم يأت خبر عنه عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة ، فلا يجوز أن يقال ذلك . لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة . وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن . إلا ان يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل ، فيلزم قبوله . وأما التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز . وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك . ولا يجوز على الجماعة كلها . وقوله تعالى : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) ، إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليدا لأسلافهم من النصارى واليهود انه عليه السلام قتل وصلب . فهؤلاء شبه لهم القول . أي : أدخلوا في شبهة منه . وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت . وشرطهم المدعون أنهم قتلوه . وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك . وانما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس . ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة التي شبه الخبر لها .
ثم نقول لليهود والنصارى ، بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسألة : ان كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء اماء . وهو حرام عندكم . وعن هارون عليه السلام انه هو الذي عمل العجل لبني اسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه . وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره . وعن الأمر بذلك ، وعن كل معصية ورذيلة . فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء ، منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم –كان كل ما أمروهم به ، مع جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته . ومن جنس وطء الإمام وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم . لاسيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه . وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة . ولكن نقل آحاد كذبوا فيه . وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه ، من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره . لا انه خار بطبعه قط . وحتى لو صح أنه خار بطبعه ، لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليه السلام ، والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه . وبالله تعالى التوفيق .
وأما قوله : كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه ؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له ؟ فهذه قسمة فاسدة شغبية . قد حذر منها الأوائل كثيرا . ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام . وذلك انهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين : إما فرض بإنكار ، واما فرض باقرار . وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه . وهذا لا يرضى به لنفسه الا جاهل أو سخيف مغابط غابن لنفسه ، غاش لمن اغتر به . وانما الحقيقة ههنا أن يقول . هل يلزم الناس ، قبل ورود القرآن ، فرض بالاقرار بصلب المسيح ، أو بإنكار صلبه ، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك ؟ فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح . وحق الجواب انه لم يلزم الناس قط ، قبل ورود القرآن ، فرض بشيء من ذلك . لا باقرار ولا بإنكار . وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري . ممكن صدق قائله . فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك . وهو بمنزلة شيء مغيب في دار . فليقل لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد : ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار ؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك ؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء . ولم ينزل الله عز وجل كتابا قبل القرآن بفرض اقرار بصلب المسيح صلى الله عليه وسلم ولا بإنكاره . وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه . فإن قالوا : قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول . قيل لهم وبالله التوفيق : الناقلون لنبوتهم وأعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام ، هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى ، مفتر عليه ، كافر به . فإن الناقل لذلك عنهم صادقا أو كانوا كافة ، فما كان يوحنا ومتى وبولس إلا كفارا كاذبين . وما كانوا قط من صالحي الحواريين . وان كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا ، فالكاذب لا يقوم بنقله حجة . فبطل التمويه المتقدم . والحمد لله رب العالمين .
أخذ بعض نصارى هذا العصر يتذبذب في الاعتقاد . فطفق يرد على المسيحيين قولهم بتثليث الآلهة . وأنه مضاد لصريح نصوص الوحي . أخذ يسلم بحقية القرآن وكذا التوراة والانجيل الموجودين وانهما لم يحرفا تحريفا جوهريا . واعتقد بصلب المسيح يقينا . وصار يناقش المفسرين فيما فسروا به الآية المذكورة ، أعني آية الصلب . زاعما أن المنفي عن اليهود فيها هو نسبة الفعل لهم توبيخا لتهكمهم وازدرائهم . ورد فعل الصلب إليه تعالى . وقد توسع في هذا الموضوع وألف كتابا سماه ( المعتقد الصحيح في صلب السيد المسيح ) ولما كان مبحثه غريبا جدا ، أردت أن أورد هنا بعض تمويهاته في رسالته . وأعقبها بما فوق عليه من سهام ردود تهافته .
قال في أول رسالته : إن التباس فهم آية الصلب هو غالبا في تقدير نائب الفاعل لفعل ( شبه لهم ) فانا ان قدرنا نائب الفاعل مصدرا مأخوذا من الفعل السابق المذكور في الآية ( وما قتلوه وما صلبوه ) وكان التقدير : شبه لهم أنهم قتلوه وانهم صلبوه . أو شبه لهم قتلهم له وصلبهم اياه . والمعنى أنه مثل أو خيل لهم أنهم كانوا هم القاتلين وهم الصالبين –انحلت المسألة تقريبا . وزالت كل صعوبة تأويل . حيث أن السيد المسيح لم يقتل أصلا . ولا صلب قهرا . أو مات جبرا . أو اضطرارا . بل هو من نفسه ( على زعمه ) قدم ذاته للصلب عن رغبته واختياره ورضاه . فكأن اليهود لم يفعلوا شيئا بقدرتهم ومجرد إرادتهم . حتى يحق لهم الافتخار بأنهم قتلوه . وأما ان قدر المسيح نائب الفاعل ل ( شبه ) تعقدت المسألة وضاع السياق اللغوي . لأنه لا وجه ، لغويا ، في الآية يثبت وقوع الصلب على رجل آخر غيره . إذ لم يذكر صريحا ولا إشارة .
ثم ذكر في الفصل السادس أن القرآن العزيز لم يؤنب النصارى ، ولا مرة ، على ضلال اعتقادهم بصلب المسيح وموته وقيامته . ولا كذب الانجيل أو الحواريين . ولا لام الذين آمنوا بصلب المسيح . حال كونه نبههم مرارا على غير ضلالات عندهم .
وذكر فيه أيضا : لم ترد أحاديث صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفي صلبه . وفيه أيضا : أن هذه الآية يصح تأويلها ايجابيا طبقا لما في الإنجيل . بما أن عدة آيات أخرى قرآنية مجانسة لها أوت بخلاف ظاهرها اللفظي . كأفعال المبايعة والرمي والموت والحياة . وما أشبه ذلك . التي نشبت صريحا لغير فاعلها الظاهر .
وقال في الفصل العاشر : أما قولنا ان القرآن العزيز قصد نفي نسبة فعل الصلب لليهود واسناده لله حقيقة ، فهو استناد على قوله : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) {[2579]} .
وقوله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) {[2580]} فهنا الفاعل الظاهر حسا وفعلا إنما هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام . ولكن الفاعل الحقيقي إنما هو الله الفاعل كل شيء في الكل .
ثم قال : وربما يعترض أنه ذكر في الآية نفسها أن الله رمى ، وانه تعالى هو المبايع ، فنقول : كذلك في آي الصلب واخباره مرارا عديدة صرح في الانجيل أن الفاعل والمسلم والبازل والحاكم والآذن في أمر الصلب إنما هو الله جل جلاله .
ثم قال : نقول أخيرا : إن آية الصلب القرآنية هي صحيحة في ذاتها تماما وكمالا . ومطابقة أشد المطابقة لما ورد في نفس القرآن بهذا الشأن ولكل فحوى أسفار الميثاقين أو العهدين بكل بيان . انما تفسيرها بمطلق النفي كان وما زال غلطا وضد الحقيقة والذوق اللغوي . وضد ما جانسها في الآي الأخرى من نفس القرآن . ومن نصوص سائر الكتب المنزلة . ولا سيما الانجيل ، الذي زبدته وروحه وقوامه وخلاصته هي كون المسيح صلب ومات وقام وعرج إلى السماء . وأرسل البارقليط الآخر الرسول محمدا مبلغ القرآن العظيم ، الحاوي روح الصدق والحق ، والمذكر بكل ما قال المسيح في الانجيل الشريف .
ثم قال : ان انكار أمر الصلب أو اثباته ليس من الأركان في الدين عند المحمديين . ولا هو محرم قطعا الاختلاف في تفسير بعض آيات . وقد وجد ويوجد عدة اختلافات عند اليهود والنصارى والمسلمين . وليس ذلك محرما الا إذا آل لانكار أو لافساد نفس الآيات . أو ايقاع الشبهة على ذات نصوص الوحي . ففي آية الصلب ليس شيء من ذلك . بل بالعكس تأييد كل النصوص الالهية .
هذا خلاصة ما أورده في رسالته . وقد رد عليه من الفضلاء المسلمين عدد وافر ، في تآليف بديعة منها كتاب ( السيوف البتارة ) اعتمد مؤلفها في ايراد حججها على التواريخ الافرنجية المعول عليها . فإن الافرنج أعرف من غيرهم بحقيقة ما يهمهم ، وأبعد عن مظنة التشيع في شهادتهم على أنفسهم ، في أمر دينهم .
قال رعاه الله : يعلم الواقف على حقائق التاريخ أن مسألة الصلب من أهم المسائل التي ولدت الشقاق والنفرة فيما بين النصارى عموما ونصارى مصر والشام في الأجيال الأولى خصوصا . فإنهم كانوا غالبا يرفضون حصول الصلب رفضا باتا . لأن بعضهم كان يعتبره اهانة لشرف المسيح ، ونقصا فاضحا . والبعض الآخر كان يجحده ارتكانا على الأدلة التاريخية . وهؤلاء الجاحدون للصلب طوائف كثيرة . منها الساطرنيوسيون والمركيونيون والبارديسيانيون و التاتيانيسيون والكاربوكراتيون والمانيسيون والبارسكاليونيون والبوليسيون . إذ كلهم اعتقدوا ، مع كثيرين غيرهم ، بأنه لا يمكنهم أن يسلموا بنوع من الأنواع ، أن المسيح سمر فعلا ، أو مات على الصليب حقيقة . حتى استخفوا بالصليب والصلب . وقال بعض المؤرخين الأفاضل : إن الخلاف الذي وقع بين النصارى في مبدأ الأمر كان سببا في انسلاخ جملة طوائف وتشتتها واعتبارها في رأي الآخرين مارقة من الدين . ولكن هذه الطوائف المضطهدة المهضومة كانت أفكارها منطبقة على الأصول النصرانية عقلا ونقلا . بخلاف أفكار مضطهديهم ، فإن هذه الطوائف بنت على ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز أن يمتهن . واستنتجت من هذا انه لم يصلب قطعا . وأن ألفاظ التوجع والتضجر ، التي نسبتها إليه كتب النصارى المتأخرين ، لم يتوفه بها ولا تصح نسبتها إليه . وبالجملة إن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا . وأنه عليه الصلاة والسلام لم تسلط عليه أيد مضطهديه . بل رفع إلى السماء . ومن القائلين بهذه الأفكار الدوسيتية والمرسيونية والفلنطانيائية . وغير خاف أنه حتى على فرض البنوة فقط ، لا يمكن عقلا أن يتصور صلبه ، انتهى .
ويؤيد هذا ما قاله الباحث الشهير الموسيو ادوار سيوس ، أحد أعضاء ( الأنستيتو دي فرنس ) في باريس . المشهور بمعارضته المسلمين في كتابه ( عقيدة المسلمين في بعض المسائل النصرانية ) صحيفة ( 49 ) : ان القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه . ويقول بأنه ألقى شبهه على غيره . فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه . وان ما قاله القرآن موجود عند طوائف النصرانية منهم الباسيليديون . كانوا يعتقدون ، بغاية السخافة ، أن عيسى وهو ذاهب لمحل الصلب ، ألقى شبهه على سيمون السيرناي تماما . وألقى شبه سيمون عليه . ثم أخفى نفسه ليضحك استهزاء على مضطهديه الغالطين . ومنهم السيرنتيون ، فانهم قرروا أن أحد الحواريين صلب بدل عيسى . وقد عثر على فصل من كتب الحواريين . وإذا كلامه نفس كلام الباسيليديين . وقد صرح ( انجيل القديس برنابا ) باسم الذي صلب بدل عيسى فقال : انه يهوذا . انتهى .
ولم يرد المؤرخ ، المترجم كلامه ، على هذا الانجيل ، إلا بدعوى أنه كلام لا يعول / عليه . وهذا الرد من الرد من رجل صدر نفسه للرد على المسلمين غير كاف . فيستفاد من جميع ما ذكر أن جما غفيرا من طوائف النصارى ذوات البال والأهمية ، كانت تنبذ عقيدة صلب المسيح نبذا ، وتفندها تنفيدا . وما زالوا كذلك حتى جاء الإسلام فدخلوا فيه أفواجا . لانكار القرآن . وما أنكروه من الصلب وغيره . وبالجملة فإن أغلب الشعوب الشرقية ، قبل الفتح الاسلامي ، رفضت القتل والصلب . حتى قال ياسيليوس ابلاسليدي : ان نفس حادثة القيامة ، المدعى بها بعد الصلب الموهوم ، هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب . ومن المعلوم أن نصارى الشام هم الذين وقعت هذه الحادثة بينهم . فهم أقرب الناس إلى العلم بحقيقتها . وكذلك من جاورهم من نصارى المصريين وغيرهم . لحصول الجوار وقرب المسافة . فكيف لا تكون شهادتهم هي عين الصواب ؟ وبذلك يتبين أن دعوى ( صاحب جريدة شهادة الحق ) الإجماع على الصلب وانفراد القرآن بنفيه –غير مسلمة ، مع وجود هذه الطوائف المنازعة في الصلب . وقد صرح القرآن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما بعث لتصديق ما بين يديه من الحق وتبيين ما اختلف فيه طوائف النصارى مع اليهود ، والنصارى مع بعضهم بعضا . ولو حكمنا التاريخ لشهد لهؤلاء الناس وبرر أقوالهم . وذلك أن أهل فلسطين كانوا يعبدون الأوثان ويخالفون بني اسرائيل في ديانتهم . فكان من مبادئهم ، العاملين عليها في سياستهم العمومية ، بذل المجهود وافراغ الوسع في معاكسة عقائد اليهود . لادخالهم في الديانة الوثنية وتقويض دعائم الشريعة الموسوية . والضغط على شعائرهم الملية . يشهد لهذا أقوال الكاتب الشهير ( أرنست رنان ) العضو في ( الأكادمي الفرنساوية ) المنفرد بالاجادة والشهرة ، في رسالة نشرت في جريدة العالمين في 15 مارس 1893 . معنونة ب ( اليهود تحت حكم الرومان ) حيث قال : ان كل المناصب ذوات المرتب الباهض كانت غنيمة باردة لليهود الذين يطرحون دينهم ظهريا . ويجعلون شعائرهم الملية شينا . ويعتنقون ديانة الرومان الوثنية . فكان من / ضغط الرومان ومن تزلف اليهود إليهم ، ومن اطماعهم إلى الرتب والألقاب ، أن ارتد غالب سواد اليهود وعبدوا جوبيتير الألومبي . وكان الواحد منهم يخفي الاختتان بعملية شاقة جدا ( ذكرها سلس المؤرخ الروماني الشهير ) ثم يتزيى بزي الرومان ويسحب ذيوله تيها واعجابا بنفسه وبعوائد الرومان . وازدراء واحتقارا لبني جلدته وذوي ملته . فرحا بلقمة يلتقمها . أو مرتبة يتربع في دستها . وما زالت اليهود تترومن حتى أن الأحبار غادروا الهيكل والمجامع . واشتغلوا بملاعب الرومان الرياضية . وأخيرا آل الأمر ، قبل وجود عيسى عليه السلام ، إلى ادخال صنمهم الأكبر ووضعه في محل تقريب القربان نفسه . بحيث أن القربانات كانت تعمل أمامه . حتى كادت معالم اليهودية أن تنمحي من صحيفة الوجود . ووقع ذلك سيء الوقع وأثر أردأ تأثير في نفوس البقية القليلة من اليهود التي اعتصمت بدينها . انتهى .
وبهذا يعلم مقدار ضغط الرومان على اليهود لمحو آثار دينهم من الوجود . فليس من المعقول أن الحكومة ، وهي على ما ترى من الكراهة الدينية لليهود ، تجيبهم إلى ما طلبوا من تنفيذ أمر الصلب . أو تعيره أدنى ذرة من الأهمية . خصوصا والحاكم الروماني على فلسطين في ذاك الوقت ، كان يكره اليهود كما يكره أن يلقى في النار . وهم يكرهونه أشد من ذلك . دليلنا على ذلك ما كتبه المسيو رنان المذكور في كتابه المشهور المسمى ( حياة المسيح ) حينما تكلم على شكاية اليهود من عيسى بدعوى أنه غير التوراة . وكان ذلك على زعمهم ليستوجب قتله . حيث قال : ان حاكم فلسطين المسمى ( بونسيوس ) الملقب ( بيلاطس ) –أظهر عدم زعمهم بمنازعات اليهود الداخلية وشكاويهم وخصوماتهم . بل كان يعتبر أن هذه الأعمال صادرة عن عقول مختلة وأفكار معتلة . وبالاجمال ، كان يكره اليهود وهم يكرهونه أشد من كراهته لهم . لأنهم كانوا يجدونه قاسيا ذا أنفة وكبر . غيرمكترث بهم . ولقد رموه وعابوه بجنايات لا يسعها عقل عاقل . والمتمسكون بدينهم منهم رأوا أن غرض بيلاطس هذا ، سحق أثر الشريعة الموسوية سحقا ومحوها محوا . وتعصبهم الأعمى وكراهتهم الدينية له جعلاه يأنف من أفكارهم . فإنه كان يميل كل الميل إلى الأحكام الوضعية الرومانية . التي كانت نهاية فخر كل روماني في ذلك الحين . وكان يرى أفكار اليهود سخيفة تقهقرية . لأنه كلما هم بجلب النافع العام ، وسن مشروع يضمن الراحة والرفاهية ، قام الأحبار عن آخرهم وعارضوه بتفسير التوراة التي كانت تسد في وجهه أبواب التحسين والتغيير . فلم يعتن بجرح حواسهم ومس شرفهم ومعالمهم الدينية . وعاملهم بالقسوة والكبر وعدم تنفيذ رغباتهم . فانشعب الأمر ودام الفشل . وأخيرا اضطرت الحكومة إلى إقالته من منصبه بسبب قيامة اليهود عليه . ولقد كانت نفس بيلاطس تضيق ، وصدره يحرج عند مجيء شكوى ضد عيسى عليه الصلاة والسلام . حيث كان لا يسمح بتنفيذ أمر القتل عليه . وعيسى ضد اليهود ، ويعيب التوراة كما يقولون . فكان ذلك عن رغبة الحاكم . وجل ما يتمنى . فكيف يكون هو الآمر والمنفذ لقتله ؟ مع أنه كان قادرا على تنفيذ رغباته المضادة لليهود على خط مستقيم . والحقيقة أن بيلاطس كان ميالا كل الميل لخلاص السيد من هؤلاء الظلمة . ولعله رأى ما فيه من جميل الشيم والأخلاق الكريمة الطاهرة . فراقه ذلك ، زيادة عن كراهته لليهود . فعمل على خلاصه من الصلب . كما يتضح من ( انجيل متى ) 27 و24 . و ( لوقا ) 23 و12 . و ( يوحنا ) 13 و23 . وفي بعض آيات الانجيلين أن عيسى سوعد من زوجة بيلاطس الحاكم القائلة ( كما هو مذكور في ( انجيل متى ) 27 و19 ) : إياك وهذا البار . لأني تألمت اليوم كثيرا في حلم من أجله . ولعلها رأته فبهرها كماله ووقاره وحشمته وبلوغه الغاية في الأدب والشمائل الطاهرة . والظاهر أنها رأت هذا الشاب البريء المبجل من إحدى نوافذ قصرها المطلة على أفنية هيكل سليمان عليه السلام . فظهر لها بكماله الحقيقي . فاستفظعت إهدار دم هذا البريء الوقور . وكيفما كان السبب ، فالذي لا يشك فيه أحد ، أن بيلاطس كان محبا لعيسى عليه السلام حبا شديدا . ولذلك سأله بكمال اللطف والأدب ليفرغ ما في وسعه لتبرئته . انتهى .
فيؤخذ من كلام ( رنان ) أن الحاكم المنوط به الأمر والتنفيذ ، كان مضادا للصلب . فلا غرابة في عدم حصوله للمسيح عليه السلام ، وتبديله بآخر . وكراهة هذا الحاكم لليهود مشهورة لا تحتاج لزيادة إيضاح . حتى أن ترتوليانوس ، أحد آباء الكنيسة النصرانية ، جزم بأن بيلاطس الحاكم كان نصرانيا في الباطن . وفي الجزء الأول من تاريخ الديانة النصرانية لمؤلفه ( ملمن ) : إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس وإسدال ثوب الظلام . فيستنتج من ذلك أيضا إمكان استبدال السيد المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس ، منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم . كما اعتقد بعض الطوائف . وصدقهم القرآن . ولقد جرى على هذا الرأي جماعة من المؤرخين المهمين ( كالمسيو شارل بيكار ) و ( أرنست دي بونس ) وغيرهما . فإن الأول قال : إن مسألة صلب المسيح كلها مبتكرة مخترعة لا غير . لتوافق اعتقادات قديمة . مآلها أن الله لا يسكن غضبه إلا بسفك دم القربان من بني آدم . وكانت اليهود تقدم أولادها للذبح استجلابا لإسكان غضب الخالق وجلب رضاه . ويقول : إنهم ربما أكلوا لحوم القربان الآدمي وشربوا دمه . ولما قامت الأنبياء في بني إسرائيل واضطهدت هذه العادة الشنعاء ، بدل ذبح الآدمي قربانا بذبح الحيوان . وأطال المسيو ( بيكار ) في شرح ارتباط تضحية سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام مع هذه العوائد القديمة . فأفاد أن نفس الصليب كان مستعملا رمزا عن شيء عندهم اسمه ( اللنجام ) وهو عبارة عن خشبتين متصلبتين متداخلتين في بعضهما .
وأما المسيو ( أرنست دي بونس الألماني ) فإنه قال في كتابه المسمى ب ( النصرانية الحقة ) صحيفة 142 ما معناه : إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء ، هو من مبتكرات ومخترعات بولس ومن شابهه ، من الذين لم يروا المسيح عليه الصلاة والسلام . لا من أصول النصرانية الأصلية .
فوضح وضوح الشمس لذي عينين أن التاريخ ، فضلا عن كونه لم يثبت مسألة الصلب والقتل ، يرجح نفي حصوله رجحانا لا يكاد يفارق اليقين الحقيقي . ومعلوم أن أخذ الأمور التاريخية في هذا الصدد عن طوائف مصر والشام أولى ، لأنهم أبناء جلدتها ، وأدرى بحوادث بلادهم الحقيقية . فيؤخذ من كل ذلك :
أولا : أن كافة الظروف التي حصل فيها تنفيذ الحكم كانت مساعدة لتخليص المسيح عليه الصلاة والسلام . وبالأخص اضطهاد الحكومة الرومانية للعقائد الموسوية . وعدم الاعتناء بها لا يسهل تنفيذها .
ثانيا : وقت الغلس الذي حصل فيه ذلك الصلب الموهوم .
وكان يمكننا لدرس هذا الموضوع التكلم على جملة مسائل تفند دعوى الصلب تفنيدا لا مزيد عليه . ومن ضمنها ، أن نصارى اليوم تدعي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حكم من مجمع اليهود بالقتل بسبب تغييره لأحكام التوراة . ومن المعلوم أن الحكم ، في ذلك الموضوع ، الرجم لا الصلب . فهذا مما يرتكن عليه مثل الموسيو ( شارل بيكار ) في ادعائه أن النصارى الحديثين احتاجوا لعلامة الصليب رمزا لبعض عقائد كانوا يريدون إدخالها في الديانة . وهي مسألة الفدا . انتهى كلام صاحب ( السيوف البتارة ) .
ولما اطلع عليها ذلك النصراني المذبذب المردود عليه ، أعياه من الطريقة التاريخية ، فأخذ يرد عليها تشبثا بأسباب واهية . فعد ، كل من رفض الصلب من نصارى الأيام الأول ، هرطوقيا . أي : مارقا من الدين . ورمي أصحاب التواريخ من أهل أوروبا الذين وافقوا المسلمين في عدم حصول الصلب بأنهم كفرة الافرنج . ثم تمسك بالأناجيل الأربعة الرسمية وقال : يلزم حينئذ تأويل ما جاء في القرآن المجيد حتى يصل للوفاق .
فعاد صاحب ( السيوف البتارة ) وألف رسالة ثانية في شهادة علماء الافرنج بحفظ القرآن وتحريف ما سواه . تكملة للأول . فتوسع جزاه الله خيرا في هذا الموضوع ثم قال : ( في كلام على الانجيل ) ما لفظه : أما الانجيل فإنه أبعد عن الصحة من التوراة بكثير . إذ لا يفهم أحد للآن كيف تعدد الانجيل الأصلي إلى نسخ شتى متباينة . ولأي مرجح استحسنت منها النصارى الحاليون أربعة أناجيل ، مختلفة كل الاختلاف ، متضاربة كل التضارب . ولا يدري لماذا عدلوا عن ( انجيل برنابا ) مثلا الذي وافق القرآن قبل ظهوره في المسائل التي أبتها الكتب الحالية . فانا نجد هذا الانجيل يخبر أن السيد المسيح نبي ، عبد ، مخلوق . ليس بإله . وأنه لم يصلب . وفيه البشارة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مذكور بلفظه ( كذا ) . وهاك ما قاله السيد المسيح في الانجيل المذكور ( واني وان كنت بريا ، لكن بعض الناس لما قالوا في حقي انه الله وابن الله ، كره الله هذا القول واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزؤون . فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا . ويظن كل شخص أني صلبت . لكن هذه الاهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله . فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط . وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس ) .
وقد استشهد العلامة ( سيل ) الانكليزي ، المشهور في أوروبا بترجمة المصحف الشريف ، بهذه الآية الانجيلية ، تفسيرا لقوله تعالى في سورة آل عمران : ( ومكروا ومكر الله * والله خير الماكرين ) {[2581]} و ( انجيل برنابا ) أثبته العلماء قبل الإسلام بنحو ثلاثمائة سنة . حتى أن العالم الانكليزي ( تولاند ) قال : وعلى النصرانية السلام ، بمجرد رؤيته هذا الانجيل . ثم قال : قال العلامة ( هيردر ) وجماعة آخرون : ان الانجيل الأصلي كان واحدا . إلا أنه لم يكتب . بل قاله المسيح مشافهة . رواه الحواريون عنه للناس شفاهيا أيضا . فحفظ الخلق منه بعض أقوال أضافوا إليها ما استحسنوه من السير والقصص . ونقصوا منها ما لم يوافق أذواقهم . وما زالت تنتقل الروايات المختلفة من شخص إلى آخر ، ومن زمن إلى غيره حتى تشعبت ، وكتب أخيرا منه أناجيل شتى ، فاختارت الكنائس منها أربعة جعلتها الرسمية .
/ ثم قال مؤلف ( السيوف البتارة ) : فوضح وضوحا تاما لذي بصيرة ، أن الحجة على دعوى صلب المسيح قد سقطت سقوطا لا تقوم بعده أبدا . سواء من جهة التاريخ الصحيح الذي دحضها وخذل مدعيها بأجلى برهان ، أو من جهة الأناجيل المعتبرة عندهم . لذهاب أصلها أدراج الرياح ، بثبوت التحريف والتغيير لها .
ثم قال : وأما قوله ( يعني التذبذب ) . بأن طوائف النصارى الرافضة للصلب هراقطة – فغريب . لأنهم مثله في العقيدة لا يمتازون إلا بإنكارهم الصلب الحقيقي للمسيح . وهل الاقتصار ، في الرد من باحث ، على قوله ( كفرة ) يعد من باب نقض الدليل وتزييف الحجة بالحجة ؟ أو من باب المكابرة في المحسوس والانقطاع عن المناظرة للعجز الواضح . وإذا جاز إطلاق ( كفرة ) على هؤلاء وهم أمناء النصرانية واليهودية – جاز أن تصف بهذه الصفة كل يهودي ونصراني . وحينئذ لا يصح احتجاجك بإجماعهم ولا بشيء من آرائهم . وتكون في ردك بكلمة ( هراقطة . كفرة ) أشبه بمن اقتصر في مناظرة خصمه على كلمة ( لا ) فقط . فهو يكررها ولا يسأم من الرد بها .
ثم قال : فقد برح الخفاء وانكشف الغطاء وبان للقراء أن لا إجماع بين النصارى أنفسهم على حصول الصلب منذ تكلم الناس فيه حتى الآن . وتفرقت فيه آراؤهم أيدي سبا . وذهبوا فيه كل مذهب . فلا تكاد تجد قولا لأحدهم في أي عصر إلا وهو مضاد لأقوال آخرين منهم على خط مستقيم . حتى لا ترى إلا غوغاء وجلبة المناقضات . فلم يتفقوا على كيفية الصلب ولا على معناه ولا على المراد منه . ولا اجتمع فيه رأيان . كان ذلك من باب التقليد والتسليم ، الذي لا يقام عليه دليل أعظم من أن يقال : إن الدين ينبغي أن لا يفهم ولا يدخل معناه السري تحت تصور . هذا مع أن الصلب عند النصارى هو قلب دينهم ( كما يقولون ) وأساس معتقدهم . حتى كأنه بمنزلة التوحيد عند المسلمين . ومع أن نفي الصلب عندنا ليس من الأصول التي انبنى عليها ديننا في شيء ، بل لا تخرج مسألته عن كونها من قصص الأولين ، كالأخبار عن نوح وإبراهيم وموسى ، مما سيق لنحو الوعظ والاعتبار –فلم يهجس بخلد مسلم منذ وجد الإسلام إلى يومنا هذا أن عيسى صلى الله عليه وسلم صلب أو قتل . ولم يخرق إجماع المسلمين على ذلك واحد منهم في كل عصر ومكان . وما ذلك إلا لضبط القرآن الكريم وصيانته . ولو حكمنا غير متدين في هذه المسألة ، ونظر لأهميتها عند النصارى ، مع عدم قدرتهم على اثباتها ، ولفرعيتها عند المسلمين ، مع إجماعهم على نفيها إجماعا لا مثيل له في العالم –لانبهر من همة المسلمين في ضبط وحفظ كتابهم ، وثباتهم في صغير الأمر وكبيره . وتمنى أن تتدلى الأنجم الزهر ليصوغ منها عقود ثناء ومدح لهم ، على عنايتهم بدينهم إلى هذا الحد الذي لا نظير له . ولم يسعه إلا أن يقلب أكف الأسف ، ويعض بنان الندم على تزعزع دين غيرهم . لدرجة أن أعظم أصل فيه لا يثبت إلا في مخيلات بعض المقلدين . من غير استناد على دليل نقلي صحيح . أو عقلي مسلم ، حتى قام عقلاؤهم نافضين غبار التقليد ، ناشدين الحقيقة . فانجلت ، لكثير منهم ، عن تدمير هذا البناء التقليدي . والرجوع إلى ما ثبت بالدليل في ديانة غيرهم . ومما هو جدير بالتنبه له أن بولس الذي عزا إليه كل محققي التاريخ من الافرنج وغيرهم ، أنه وحده المخترع لمسائل الصلب والفداء ، وألوهية عيسى إلى غير ذلك – قد أبان أن الصلب والقتل ليسا حقيقيين . كما جاء في رسالته لأهل غلاطية . حيث قال : انتم الذين رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا . وقال في رسالته لأهل رومية : نحن نقوم بشبه موته . إلى أن قال : فدفنا معه بالمعمودية ، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته ، نصير أيضا بارتفاعه ، عالمين أن إنساننا العتيق قد صلب معه الخ . فيستفاد من مجموع أقوال بولس هذه أن المسيح لم يصلب ولم يقتل حقيقة . وإنما ذلك مجاز عن الشبه المقتول المصلوب . كما جاء في ( انجيل برنابا ) . وقد يدعوك حب التمسك بهذه المسألة إلى أن تؤول كلام بولس بما لا يحتمله اللفظ والسياق . وأنت لاه عن أنه متى وقع الاحتمال سقط الاستدلال . وإنما أتينا بكلامه تنزلا معك على التسليم الجدلي بصحة ما روي عنه في رسالته لأهل غلاطية . فنقول : حتى على فرض صحة ما روى عن بولس نفسه ، فإنه يشهد لنفي الصلب والقتل . لا لحصولهما حقيقة . هذا ولو قارنت دعوى الصلب والفداء بما جاء في التوراة من قولها : ( الشرير فدية الصديق ) لكان معناه ، على مقتضى زعمك ، أن عيسى شر بالإضافة لكل أحد . وهذا لا يجوز لا عقلا ولا شرعا . فوجب ، أخذا من عبارة التوراة ، أن يكون المصلوب شريرا فداء لصديق ، هو عيسى عليه الصلاة والسلام . كما جاء في ( انجيل برنابا ) . انتهى ملخصا .
ولن يعدم الحق أنصارا ، والباطل خزيا وانكسارا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في كتابه ( الفرقان ) وهو آخر مصنفاته . صنفه بقلعة دمشق ، ما لفظه : ( فان قيل ) فإذا كان في كتب الأناجيل التي عندهم أن المسيح صلب وأنه بعد الصلب بأيام أتى إليهم ، وقال لهم : أنا المسيح . ولا يقولون إن الشيطان تمثل على صورته – فالشيطان ليس هو لحم وعظم . وهذه أثر المسامير . أو نحو هذا الكلام – فأين الانجيل الذي قال الله عز وجل فيه : ( وليحكم أهل الانجيل بما انزل الله ) {[2582]} وقال قبل هذا : ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة * وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه * ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) {[2583]} . وقال قبل هذا : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك * وما أولئك بالمؤمنين * إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ){[2584]} . وقال أيضا : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) {[2585]} . وقال أيضا : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم * وليزيدن كثيرا منهم ما انزل إليك من ربك طغيانا وكفرا * فلا تأس على القوم الكافرين ){[2586]} . وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بان يقول لأهل الكتاب ، الذين بعث إليهم ، وهو من كان في وقتهم ومن يأتي من بعدهم إلى يوم القيامة . لم يؤمر أن يقول ذلك لمن قد تاب منهم . وكذلك قوله : ( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ) {[2587]} ، إخبار عن اليهود الموجودين وأن عندهم التوراة فيها حكم الله . وكذلك قوله : ( وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ) {[2588]} ، هو أمر من الله على لسان محمد لأهل الانجيل . ومن لا يؤمر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، قيل قبل هذا : انه قد قيل ليس في العالم نسخة بنفس ما أنزل الله في التوراة والانجيل بل ذلك مبدل . فإن التوراة انقطع تواترها . والإنجيل إنما أخذ عن أربعة . ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة والانجيل باطل ليس من كلام الله . ومنهم من قال : بل ذلك قليل . وقيل : لم يحرف احد شيئا من حروف الكتب وإنما حرفوا معانيها بالتأويل . وهذان القولان ، قال كلا منهما كثير من المسلمين . والصحيح القول الثالث ، وهو أن في الأرض نسخا صحيحة وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسخا كثيرة محرفة . ومن قال : انه لا يحرف شيء من النسخ فقد قال ما لا يمكنه نفيه . ومن قال : جميع النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم حرفت فقد قال ما يعلم أنه خطأ . والقرآن يأمرهم أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة والانجيل ويخبر أن فيهما حكمه . وليس في القرآن خبر أنهم غيروا جميع النسخ . وإذا كان كذلك فنقول : هو سبحانه قال : ( وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ) {[2589]} وما انزل الله هو ما تلقوه عن المسيح . فأما حكايته لحاله بعد أن رفع فهو مثلها في التوراة ذكر وفاة موسى عليه السلام . ومعلوم أن هذا الذي في التوراة والانجيل ، من الخبر عن موسى وعيسى بعد توفيهما . وهذا خبر محض من الموجودين بعدهما عن حالهما ، ليس هو مما أنزله الله عليهما ، ولا هو مما أمرا به في حياتهما ، ولا مما أخبر به الناس . وكذلك{[2590]} : ( لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) . وقوله{[2591]} : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) . فإن إقامة الكتاب ، العمل بما أمر الله به في الكتاب ، ومن التصديق بما أخبر به على لسان الرسول .
وما كتبه الذين نسخوه من بعد وفاة الرسول ومقدار عمره ونحو ذلك ، ليس هو مما أنزله الله على الرسول ، ولا مما أمر به ، ولا أخبر به . وقد يقع مثل هذا في الكتب المصنفة . يصنف الشخص كتابا فيذكر ناسخه . في آخره ، عمر المصنف ونسبه وسنه . ونحو ذلك مما ليس هو من كلام المصنف . ولهذا أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن . وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن . فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا ( آمين ) . ولا غير ذلك . والمصاحف القديمة والتي كتبها أهل العلم ، على هذه الصفة . وفي المصاحف من قد كتب ناسخها أسماء السور والتخميس والتعشير والوقف والابتداء . وكتب في آخر المصحف تصديقه . ودعا وكتب اسمه ونحو ذلك . وليس هذا من القرآن . فهكذا ما في الانجيل من الخبر عن صلب المسيح وتوفيه ومجيئه بعد رفعه إلى الحواريين ، ليس هو مما قاله المسيح ، وانما هو مما رآه من بعده . والذي أنزله الله هو ما سمع من المسيح المبلغ عن الله . فإن قيل : فإذا كان الحواريون قد اعتقدوا أن المسيح صلب ، وأنه أتاهم بعد أيام ، وهم الذين نقلوا عن المسيح الانجيل والدين ، فقد دخلت الشبهة .
قيل : الحواريون وكل من نقل عن الأنبياء ، إنما يجب أن يقبل منهم ما نقلوه عن الأنبياء ، فإن الحجة في كلام الأنبياء . وما سوى ذلك فموقوف على الحجة . ان كان حقا قبل وإلا رد . ولهذا كان ما نقله الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث يجب قبوله . لاسيما المتواتر ، كالقرآن وكثير من السنن . وأما ما قالوه ، فما أجمعوا عليه فإجماعهم معصوم . وما تنازعوا فيه ، رد إلى الله والرسول . وعمر قد كان أولا أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم . حتى رد ذلك عليه أبو بكر . وقد تنازعوا في دفنه حتى فصل أبو بكر بالحديث{[2592]} الذي رواه . وتنازعوا في تجهيز جيش أسامة . وتنازعوا في قتال{[2593]} مانعي الزكاة . فلم يكن هذا قادحا فيما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم . والنصارى ليسوا متفقين على صلب المسيح . ولم يشهد أحد منهم صلبه . فإن الذي صلب إنما صلبه اليهود . ولم يكن أحد من أصحاب المسيح حاضرا . وأولئك اليهود الذين صلبوه قد اشتبه عليهم المصلوب بالمسيح . قد قيل إنهم عرفوا أنه ليس هو المسيح . ولكن هم كذبوا وشبهوا على الناس . والأول هو المشهور وعليه جمهور الناس . وحينئذ فليس عند النصارى خبر عمن يصدقونه بأنه صلب . لكن عمدتهم على ذلك ، الشخص الذي جاء الشيطان بعد أيام وقال : أنا المسيح . وذاك شيطان . وهم يعترفون بأن الشياطين كثيرا ما تجيء ويدعي ( كذا ) انه نبي أو صالح . ويقول : أنا فلان النبي والصالح . ويكون شيطانا . وفي ذلك حكايات متعددة مثل حكاية الراهب الذي جاءه جاء وقال : أنا المسيح . جئت لأهديك . فعرف أنه الشيطان . فقال : أنت قد بلغت الرسالة ونحن نعمل بها . فإن جئت اليوم بشيء يخالف ذلك لم نقبل منك . فليس عند النصارى واليهود علم بأن المسيح صلب . كما قال تعالى : ( وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن ){[2594]} . وأضاف الخبر عن قتله ، إلى اليهود بقوله : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) {[2595]} فإنهم بهذا الكلام يستحقون العقوبة . إذ كانوا يعتقدون جواز قتل المسيح . ومن جوز قتله فهو كمن قتله . فهم في هذا القول كاذبون . وهم آثمون . وإذا قالوه فخرا لم يحصل لهم الفخر . لأنهم لم يقتلوه . وحصل الوزر لاستحلالهم ذلك وسعيهم فيه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :{[2596]} " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قالوا : يا رسول الله ! فما بال المقتول ! قال : انه كان حريصا على قتل صاحبه " .
وقوله : ( وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ) : قيل هم اليهود والنصارى . والآية تعم الطائفتين . وقوله : ( لفي شك منه ) . قيل : من قتله : وقيل : منه ، أي : في شك منه . هل صلب أم لا ؟ كما اختلفوا فيه . فقالت اليهود : هو ساحر . وقالت النصارى : انه إله . فاليهود والنصارى اختلفوا هل صلب أم لا ؟ وهم في شك من ذلك ما لهم به من علم . فإذا كان هذا في الصلب فكيف في الذي جاء بعد الرفع وقال انه هو المسيح ؟
فان قيل : كان الحواريون الذين أدركوه قد حصل هذا في إيمانهم ، فأين المؤمنون به الذين قال فيهم : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ) {[2597]} . وقوله : ( فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) {[2598]} . ( قيل ) ظن من ظن منهم انه صلب لا يقدح في إيمانه . إذا كان لم يحرف ما جاء به المسيح . بل هو مقر بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه –فاعتقاده بعد هذا أنه صلب لا يقدح في إيمانه . فإن هذا اعتقاد موته على وجه معين . وغاية الصلب أن يكون قتلا له . وقتل النبي لا يقدح في نبوته . وقد قتل بنو إسرائيل كثيرا من الأنبياء . وقال تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . . . ) {[2599]} الآية . وقال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) . {[2600]}وكذلك اعتقاد من اعتقد منهم أنه جاء بعد الرفع وكلمهم . هو مثل اعتقاد كثير من مشايخ المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في اليقظة . فإنهم لا يكفرون بذلك . بل هذا كان يعتقده من هو من أكثر الناس إتباعا للسنة وأتباعا لها . وكان في الزهد والعبادة أعظم من غيره . وكان يأتيه من يظن أنه رسول الله فهذا غلط منه لا يوجب كفره ، فكذلك ظن من ظن من الحواريين أن ذلك هو المسيح ، لا يوجب خروجهم عن الإيمان بالمسيح ، ولا يقدح فيما نقلوه عنه . وعمر –لما كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ، {[2601]} ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ، وأنه لا يموت حتى يموت أصحابه –لم يكن هذا قادحا في إيمانه . وإنما كان غلطا ورجع عنه . وقوله تعالى : ( وما لهم به من علم إلا إتباع الظن ) هو ذم لهم على إتباع الظن بلا علم . انتهى كلام ابن تيمية رضي الله عنه .
ولإمام الأدباء ، شرف الدين البوصيري رحمه الله ، قصيدة في هذا المقام . نظمها في سلك ما تقدم تكملة للمرام . قال قدس سره :
جاء المسيح من الإله رسولا *** فأبى أقل العالمين عقولا
قوم رأوا بشرا كريما فادعوا *** من جهلهم لله فيه حلولا
وعصابة ما صدقته وأكثرت ، *** بالافك والبهتان ، فيه القيلا
لم يأت فيه مفرط ومفرط *** بالحق تجريحا ولا تعديلا
فكأنما جاء المسيح إليهم *** ليكذبوا التوراة والانجيلا
فاعجب لأمته التي قد صيرت *** تنزيهها لإلهها التنكيلا
وإذا أراد الله فتنة معشر *** وأضلهم ، رأوا القبيح جميلا
هم بجلوه بباطل فابتزه *** أعداؤه بالباطل التبجيلا
وتقطعوا أمر العقائد بينهم *** زمرا . ألم تر عقدها محلولا
هو آدم في الفضل إلا أنه *** لم يعط حال النفخة التكميلا
أسمعتموا أن الإله لحاجة *** يتناول المشروب والمأكولا ؟
وينام من تعب ويدعو ربه *** ويروم من حر الهجير مقيلا
ويمسه الألم الذي لم يستطع *** صرفا له عنه ولا تحويلا
يا ليت شعري ، حين مات بزعمهم *** من كان بالتدبير عنه كفيلا ؟
هل كان هذا الكون دبر نفسه *** من بعده أم آثر التعطيلا ؟
زعموا الإله فدى العبيد بنفسه *** وأراه كان القاتل المقتولا
أجزوا اليهود بصلبه خيرا . ولا *** تجزوا ( يهوذالمألم
أيكون قوم في الجحيم ويصطفي *** منهم كليما ربنا ، وخليلا
وإذا فرضتم أن عيسى ربكم *** أفلم يكن لفدائكم مبذولا ؟
وأجل روحا قامت الموتى به *** عن أن يرى بيد اليهود قتيلا
فدعوا حديث الصلب عنه ودونكم *** من كتبكم ما وافق التنزيلا
شهد الزبور بحفظه ونجاته *** أفتجعلون دليله مدخولا ؟
أيكون من حفظ الإله مضيعا *** أو من أشيد بنصره مخذولا ؟
أيجوز قول منزه لإلهه : *** سبحان قاتل نفسه مقتولا ؟
أو جل من جعل اليهود بزعمكم *** شوك القتاد لرأسه إكليلا
ومضى لحبل صليبه مستسلما **** للموت مكتوف اليدين ذليلا
كم ذا أبكتكم ولم تستنكفوا *** أن تسمعوا التبكيت والتخجيلا