( وَقَوْلِهِمُ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ) أي : بدعواهم ذلك ، فأكذبهم الله في ذلك ، فقال : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) .
قيل : إن( {[13968]} ) اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون( {[13969]} ) عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى ، فأشكل عليهم أمر عيسى ، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى( {[13970]} ) .
قال وهب بن منبه : أتى عيسى( {[13971]} ) ومن( {[13972]} ) معه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، فأحاط بهم اليهود ، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم( {[13973]} ) جميعاً ، قال عيسى لأصحابه : من يشتري اليوم نفسه بالجنة ؟ قال رجل منهم : أنا فخرج إليهم . فقال : أنا عيسى ، فأخذوه وقتلوه( {[13974]} ) ، وهو على صورة عيسى ، وصلبوه وظنوا أنه عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك ، إذا الصورة مشبهة ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك( {[13975]} ) .
وقيل : إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر ، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم( {[13976]} ) يريدون خلاصه ، فقال : أنا أخليه لكم ، فقالوا : ( {[13977]} ) بل نريد قتله ، فرفعه الله إليه ، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله ، وقال لهم : قد قتلته ، خوفاً منهم ، وهو الذي شبه لهم .
قوله : ( وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى ، ومن معه وأرادوا قتله ، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كانوا عرفوا عدد من كان في البيت ، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل : فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد ، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد ، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك( {[13978]} ) .
وقيل : إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل .
وزعم بعضهم أنه ما قتل ، فهم شاكون فيه . ودل على صحة شكهم قوله تعالى : ( مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم( {[13979]} ) .
( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي : ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً ، ولكنهم قتلوه على شك ، فالهاء عائدة على الظن .
قال ابن عباس : المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً .
وقال السدي : وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى( {[13980]} ) .
وقال الفراء : المعنى : ما قتلوا العلم به يقيناً( {[13981]} ) .
وقيل المعنى : االذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً ، بل قتلوه على شك ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أي عيسى .
" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً " .
" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي ، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى : قال هذا قولاً يقيناً " ( {[13982]} ) .
قال النحاس : إن قدرت أن يكون المعنى : " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل ، . . . ( {[13983]} ) وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل( {[13984]} ) .
وقال بعض أصحاب حمزة " ( {[13985]} ) : عيسى ابن مريم تمام . لأنهم لم يقروا بأنه رسول فليس بمتصل بما قبله( {[13986]} ) .
وقال نافع : ( لَفِي( {[13987]} ) شكٍّ مِّنْهُ ) تمام( {[13988]} ) .
وأجاز ابن الأنباري( {[13989]} ) الوقف على " قتلوه " ( {[13990]} ) على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقيناً( {[13991]} ) ، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً ، ثم تبتدئ ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) مستأنفاً .
قوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه .
والاستعارة في كلام العرب باب ، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [ فالاستعارة ]( {[13992]} ) معناها : أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها ، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [ عنه ]( {[13993]} ) يكون ، والمطر سماء ، لأنه منها ينزل ، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات . وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر . ويقولون " لقيت من فلان عرق القرية " أي : شدة ، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه ، فاستعير عرقه في موضع .
ومن ذلك قول الله تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ )( {[13994]} ) أي : عن شدة الأمر ، وذلك أن الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق في موضع الشدة ، وهو كثير في القرآن ، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه .
ومنه قوله : ( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )( {[13995]} ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً )( {[13996]} ) إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول : ما رزانه( {[13997]} ) ، زبالاً( {[13998]} ) ، فالزبال ما تحمله النملة بفيها .
ومنه قوله : ( مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير )( {[13999]} ) يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء .
ومنه ( فَجَعَلْنَاهُ هَنَاءً مَّنْثُوراً )( {[14000]} ) أراد به أبطلناه ، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه ، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت ، والمنبث( {[14001]} ) ما سطع من سنابك الخيل .
ومنه : ( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )( {[14002]} ) أي : لا تتغني خيراً ، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه .
ومنه : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ )( {[14003]} ) أي أطلعنا ، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار( {[14004]} ) سبباً للتبين( {[14005]} ) فاستعير مكان التبيين والاطلاع .
ومنه ( حُبَّ الخَيْرِ )( {[14006]} ) يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها .
ومنه ( أَوَمَنْ كَانَ مَيّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( {[14007]} ) أي كافراً فهديناه ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ) أي إيماناً ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر ، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان .
ومنه : ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ )( {[14008]} ) أي : إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل( {[14009]} ) ، وشبه( {[14010]} ) بالثقل ، لأن الحمل والثقل سواء فقال : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ )( {[14011]} ) أي آثاماً مع آثامهم .
ومنه : ( وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )( {[14012]} ) أي نكاحاً لأن النكاح يكون سراً ، ولا يظهر فاستعير له السر .
ومنه : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ )( {[14013]} ) كما تزرع الأرض ، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض .
ومنه : ( إِلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )( {[14014]} ) أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرف ، بصره عن الشيء ويغمضه فسمي( {[14015]} ) الترخيص إغماضاً .
ومنه ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )( {[14016]} ) جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان ، ويلتصقان كالثوب في تتضامه ، والتصاقه على الإنسان ، وقد قيل معنى ( لِبَاساً ) سكناً ، كما قال ( لِيَسْكُنَ( {[14017]} ) إِلَيْهَا )( {[14018]} ) ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ )( {[14019]} ) .
ومنه : ( وَثِيَابَكَ( {[14020]} ) فَطَهِّرْ ) أي : نفسك من الذنوب ، فجعل موضع النفس ، لنه يشتمل عليها ، وشبه ذلك كثير .