الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (158)

( وَقَوْلِهِمُ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ) أي : بدعواهم ذلك ، فأكذبهم الله في ذلك ، فقال : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ) .

قيل : إن( {[13968]} ) اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون( {[13969]} ) عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى ، فأشكل عليهم أمر عيسى ، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى ، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى( {[13970]} ) .

قال وهب بن منبه : أتى عيسى( {[13971]} ) ومن( {[13972]} ) معه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، فأحاط بهم اليهود ، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم( {[13973]} ) جميعاً ، قال عيسى لأصحابه : من يشتري اليوم نفسه بالجنة ؟ قال رجل منهم : أنا فخرج إليهم . فقال : أنا عيسى ، فأخذوه وقتلوه( {[13974]} ) ، وهو على صورة عيسى ، وصلبوه وظنوا أنه عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك ، إذا الصورة مشبهة ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك( {[13975]} ) .

وقيل : إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر ، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم( {[13976]} ) يريدون خلاصه ، فقال : أنا أخليه لكم ، فقالوا : ( {[13977]} ) بل نريد قتله ، فرفعه الله إليه ، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله ، وقال لهم : قد قتلته ، خوفاً منهم ، وهو الذي شبه لهم .

قوله : ( وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ) يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى ، ومن معه وأرادوا قتله ، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كانوا عرفوا عدد من كان في البيت ، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل : فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد ، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد ، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك( {[13978]} ) .

وقيل : إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل .

وزعم بعضهم أنه ما قتل ، فهم شاكون فيه . ودل على صحة شكهم قوله تعالى : ( مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ اِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ) فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم( {[13979]} ) .

( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أي : ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً ، ولكنهم قتلوه على شك ، فالهاء عائدة على الظن .

قال ابن عباس : المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً .

وقال السدي : وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى( {[13980]} ) .

وقال الفراء : المعنى : ما قتلوا العلم به يقيناً( {[13981]} ) .

وقيل المعنى : االذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً ، بل قتلوه على شك ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أي عيسى .

" ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً " .

" ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي ، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى : قال هذا قولاً يقيناً " ( {[13982]} ) .

قال النحاس : إن قدرت أن يكون المعنى : " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل ، . . . ( {[13983]} ) وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل( {[13984]} ) .

وقال بعض أصحاب حمزة " ( {[13985]} ) : عيسى ابن مريم تمام . لأنهم لم يقروا بأنه رسول فليس بمتصل بما قبله( {[13986]} ) .

وقال نافع : ( لَفِي( {[13987]} ) شكٍّ مِّنْهُ ) تمام( {[13988]} ) .

وأجاز ابن الأنباري( {[13989]} ) الوقف على " قتلوه " ( {[13990]} ) على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقيناً( {[13991]} ) ، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً ، ثم تبتدئ ( بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) مستأنفاً .

قوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه .

والاستعارة في كلام العرب باب ، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [ فالاستعارة ]( {[13992]} ) معناها : أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها ، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [ عنه ]( {[13993]} ) يكون ، والمطر سماء ، لأنه منها ينزل ، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات . وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر . ويقولون " لقيت من فلان عرق القرية " أي : شدة ، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه ، فاستعير عرقه في موضع .

ومن ذلك قول الله تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ )( {[13994]} ) أي : عن شدة الأمر ، وذلك أن الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق في موضع الشدة ، وهو كثير في القرآن ، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه .

ومنه قوله : ( وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً )( {[13995]} ) ( وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً )( {[13996]} ) إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه ، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول : ما رزانه( {[13997]} ) ، زبالاً( {[13998]} ) ، فالزبال ما تحمله النملة بفيها .

ومنه قوله : ( مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير )( {[13999]} ) يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء .

ومنه ( فَجَعَلْنَاهُ هَنَاءً مَّنْثُوراً )( {[14000]} ) أراد به أبطلناه ، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه ، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت ، والمنبث( {[14001]} ) ما سطع من سنابك الخيل .

ومنه : ( وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ )( {[14002]} ) أي : لا تتغني خيراً ، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه .

ومنه : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ )( {[14003]} ) أي أطلعنا ، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار( {[14004]} ) سبباً للتبين( {[14005]} ) فاستعير مكان التبيين والاطلاع .

ومنه ( حُبَّ الخَيْرِ )( {[14006]} ) يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها .

ومنه ( أَوَمَنْ كَانَ مَيّتاً فَأَحْيَيْنَاهُ )( {[14007]} ) أي كافراً فهديناه ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً ) أي إيماناً ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر ، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان .

ومنه : ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ )( {[14008]} ) أي : إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل( {[14009]} ) ، وشبه( {[14010]} ) بالثقل ، لأن الحمل والثقل سواء فقال : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ )( {[14011]} ) أي آثاماً مع آثامهم .

ومنه : ( وَلَكِنْ لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً )( {[14012]} ) أي نكاحاً لأن النكاح يكون سراً ، ولا يظهر فاستعير له السر .

ومنه : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ )( {[14013]} ) كما تزرع الأرض ، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض .

ومنه : ( إِلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ )( {[14014]} ) أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرف ، بصره عن الشيء ويغمضه فسمي( {[14015]} ) الترخيص إغماضاً .

ومنه ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ )( {[14016]} ) جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان ، ويلتصقان كالثوب في تتضامه ، والتصاقه على الإنسان ، وقد قيل معنى ( لِبَاساً ) سكناً ، كما قال ( لِيَسْكُنَ( {[14017]} ) إِلَيْهَا )( {[14018]} ) ( لِتَسْكُنُوا فِيهِ )( {[14019]} ) .

ومنه : ( وَثِيَابَكَ( {[14020]} ) فَطَهِّرْ ) أي : نفسك من الذنوب ، فجعل موضع النفس ، لنه يشتمل عليها ، وشبه ذلك كثير .


[13968]:- ساقط من (د).
[13969]:- (د): لا ينبثون وهو تحريف.
[13970]:- انظر: جامع البيان 6/12.
[13971]:- (ج): عيسى صلى الله عليه وسلم.
[13972]:- كذا... وصوابه: عيسى ومعه، وهي رواية جامع البيان 6/12.
[13973]:- (د): ليقتلنكم.
[13974]:- (ج) (د): فقتلوه.
[13975]:- جامع البيان 6/12-13.
[13976]:- (أ) فتراهم وكأن المعنى: فتوهم خليفة قيصر [المدقق].
[13977]:- (د): فقالوا بلى بل.
[13978]:- انظر: هذا التوجيه في جامع البيان 6/16.
[13979]:- انظر: جامع البيان 6/17.
[13980]:- انظر: جامع البيان 6/17.
[13981]:- انظر: معاني الفراء 1/294.
[13982]:- انظر: القطع: 245.
[13983]:- بياض في كل النسخ.
[13984]:- م. انظر: إعراب النحاس 1/469، ومشكل الإعراب 1/212.
[13985]:- هو أبو عمارة حمزة بن حبيب بن إسماعيل التيمي توفي 156 أحد القراء السبعة كان عالماً ورعاً ومقرئاً. انظر: معرفة القراء 1/93، وغاية النهاية 1/261.
[13986]:- القطع: 275.
[13987]:- (ج): وفي أسكنه لفي شك.
[13988]:- انظر: القطع: 275.
[13989]:- (د): الأنباري من الوقف.
[13990]:- إيضاح الوقف 2/609.
[13991]:- (د): ولقد صدقتم يقيناً ولقد صدقتم.
[13992]:- ساقط من (أ).
[13993]:- (د): ما هو قريب منها ما هو قريب منها.
[13994]:- القلم آية: 42.
[13995]:- النساء: الآية 48.
[13996]:- النساء: الآية 123.
[13997]:- (د): ما ران وهو تحريف.
[13998]:- وأصله ما أغنى عنه زبله ولا زبال، ويروى ما في الإناء زبالة وهو مثل يضرب لمن لا يغني عنك شيئاً. انظر: مجمع الأمثال 2/293 ومعنى ما رزأ: ما أصاب: انظر: اللسان 1/85 و11/300.
[13999]:- فاطر: آية 13.
[14000]:- الفرقان آية 23.
[14001]:- قال تعالى: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثّاً) الواقعة آية 6، تفسير الغريب 372-445.
[14002]:- إبراهيم آية 45.
[14003]:- الكهف آية 31.
[14004]:- (د): استار.
[14005]:- (ج): التبيين.
[14006]:- ص آية 32.
[14007]:- الأنعام آية 122.
[14008]:- الشرح: 2.
[14009]:- (أ): الحمل (د): الجبل.
[14010]:- (د): وشبيه.
[14011]:- العنكبوت آية 12.
[14012]:- البقرة آية 233.
[14013]:- البقرة آية 221.
[14014]:- البقرة آية 266.
[14015]:- (د): فتمسى.
[14016]:- البقرة آية 186.
[14017]:- (ج) (د): ليسكنوا إليها وفي "النمل" آية 86 (لِتَسْكُنُوا فِيهِ)، وفي الروم آية 21 (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا).
[14018]:- الأعراف آية 189.
[14019]:- يونس: 67 والقصص آية 73، انظر: معاني الزجاج 1/256.
[14020]:- في جميع النسخ كثيابك، وهو خطأ والآية من المدثر: 4.