تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا} (29)

{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضلال بخدعه وتسويله . { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } يزين له الباطل ويقبح له الحق ، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي الأمر ، وفرغ الله من حساب الخلق { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } الآية . فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن ، وليوال من ولايته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته . والله الموفق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا} (29)

{ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } أى : والله لقد أضلني هذا الصديق المشئوم عن الذكر أى : عن الهدى بعد إذ جاءني الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالجملة الكريمة تعليل لتمنيه المذكور ، وتوضيح لتملله . وأكده بلام القسم للمبالغة فى بيان شدة ندمه وحسرته .

والمراد بالذكر هنا : ما يشمل القرآن الكريم ، وما يشمل غيره من توجيهات النبى صلى الله عليه وسلم وفى التعبير بقوله : { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } إشعار بأن هدى الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى هذا الشقي ، وكان فى إمكانه أن ينتفع به .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } أي : وكان الشيطان دائما وأبدا خذولا للإنسان . أي : صارفا إياه عن الحق ، محرضا له على الباطل ، فإذا ما احتاج الإنسان إليه خذله وتركه وفر عنه وهو يقول : إنى برىء منك .

يقال : خذل فلان فلانا ، إذا ترك نصرته بعد أن وعده بها .

وهكذا تكون عاقبة الذين يتبعون أصدقاء السوء ، وصدق الله إذ يقول : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } ومن الأحاديث التى وردت فى الأمر باتخاذ الصديق الصالح ، وبالنهي عن الصديق الطالح ، ما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الجليس الصالح وجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثوبك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا} (29)

و { الذكر } ، هو ما ذكر به الإنسان أمر آخرته من قرآن أو موعظة ونحوه ، وقوله : { وكان الشيطان للإنسان خذولاً } يحتمل أن يكون من قول { الظالم } ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالى على جهة الدلالة على وجه ضلالتهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّقَدۡ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكۡرِ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَنِيۗ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِلۡإِنسَٰنِ خَذُولٗا} (29)

جملة { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } تعليلية لتمنِّيه أن لا يكون اتخذ فلاناً خليلاً بأنه قد صدر عن خُلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه .

وقوله : { أضلني عن الذكر } معناه سوّل لي الانصراف عن الحق . والضلال : إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقاً غيرَ المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده ، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مَسبَعة . ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهُدى ( الذي هو إصابة الطريق ) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال ، ولذلك سموا الدليل الذي يَسلك بالركب الطريقَ المقصود هَادياً .

والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملاً هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف { عن } في قوله : { عن الذكر } فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق . ففي قوله : { أضلني } مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجَى ، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية ، فهذه نكت من بلاغة نظْم الآية .

و { الذكر } : هو القرآن ، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه .

والمجيء في قوله : { إذ جاءني } مستعمل في إسماعه القرآن فكأنَّ القرآن جاءٍ حلَّ عنده . ومنه قولهم : أتاني نبأ كذا ، قال النابغة :

أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتَني

فإذا حُمل الظالم في قوله : { ويوم يعضّ الظالم على يديه } على معيّن وهو عقبة بن أبي مُعيْط فمعنى مَجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أُبيُّ بن خلف وحمله على عداوته وأذاته ، وإذا حُمِل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم ، وإمكان استماعهم إياه . وإضلال خِلاّنهم إياهم صرفُ كل واحد خليلَه عن ذلك ، وتعاوُن بعضهم على بعض في ذلك .

وقيل : { الذكر } : كلمة الشهادة ، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم ، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة ، فإن كلمة الشهادة لما كانت سببَ النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي ، ومُثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل .

و { إذْ } ظرف للزمن الماضي ، أي بعد وقتتٍ جاءني فيه الذكر ، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال : بعد ما جاءني ، أو بعد أن جاءني ، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق ، ومنه قوله تعالى : { وما كان الله لِيُضِلّ قوماً بعد إذْ هداهم } [ التوبة : 115 ] أي تمكن هديه منهم .

وجملة { وكان الشيطان للإنسان خَذولاً } تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسوّل لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان ، أي مجبول على شدة خذله .

والخذل : ترك نصر المستنجِد مع القدرة على نصره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وإن يَخْذُلْكم فَمَنْ ذَا الذي يَنصرُكُم مِن بَعده } في سورة [ آل عمران : 160 ] .

فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل ، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول .