قال الله : { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : بهذه الآيات المقترحة ، وإنما سنته تقتضي أن من طلبها ، ثم حصلت له ، فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة . فالأولون ما آمنوا بها ، أفيؤمن هؤلاء بها ؟ ما الذي فضلهم على أولئك ، وما الخير الذي فيهم ، يقتضي الإيمان عند وجودها ؟ وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، أي : لا يكون ذلك منهم أبدا .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله ورحمته بهؤلاء الذين ارسل إليهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } .
أى : أن هؤلاء الجاهلين من قومك - أيها الرسول الكريم - قد طلبوا منك آية كونية كالتى جاء بها موسى وعيسى وصالح . . . وهذه الخوارق عندما جاء بها هؤلاء الرسل ولم يؤمن بها أقوامهم أهلكنا هؤلاء الأقوام ، وفقا لسنتنا التى لا تتخلف فى إهلاك من يكذبون بآياتنا ، ولو أنا أعطيناك هذه الخوارق ولم يؤمن بها قومك لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين ، لذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نمنع عنهم ما طلبوه ، لأنهم بشر كالسابقين . وما دام السابقون لم يؤمنوا بهذه الخوراق فهؤلاء ايضاً لن يؤمنوا بها .
فالاستفهام فى قوله : { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } للإنكار : أى : أن هؤلاء الكافرين من أمتك - أيها الرسول الكريم - لن يؤمنوا بهذه الخوارق التى طلبوها متى جاءتهم لأنهم لا يقلون عتوا وعنادا عن السابقين الذين لم يؤمنوا بها فأهلكهم الله .
وصدق الله إذ يقول : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم }
استئناف ابتدائي جواباً على قولهم { كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] ، والمعنى : أن الأمم التي أرسل إليها الأولون ما أغنت فيهم الآيات التي جاءتهم كما وددتُم أن تكون لكم مثلها فما آمنوا ، ولذلك حق عليهم الإهلاك فشأنكم أيها المشركون كشأنهم . وهذا كقوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } في سورة [ الإسراء : 59 ] .
وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم ، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها .
و ( ما ) نافية . و ( من ) في قوله تعالى { من قرية } مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من حرف ( ما ) .
ومتعلق { آمنت } محذوف دل عليه السياق ، أي ما آمنت بالآيات قرية .
وجملة { أهلكناها } صفة ل { قرية } وردت مستطردة للتعريض بالوعيد بأن المشركين أيضاً يترقبون الإهلاك .
وذُكرت القرية هنا مراداً بها أهلها ليبنى عليها الوصف بإهلاكها لأن الإهلاك أصاب أهل القرى وقراهم ، فلذلك قيل { أهلكناها } دون ( أهلكناهم ) كما في سورة [ الكهف : 59 ] { وتلك القرى أهلكناهم } وفرعت جملة { أفهم يؤمنون } على جملة { ما آمنت قبلهم من قرية } مقترنة باستفهام الإنكار ، أي فهم لا يؤمنون لو أتيناهم بآية كما اقترحوا كما لم يؤمن الذين من قبلهم الذين جعلوهم مثالاً في قولهم { كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] وهذا أخذ لهم بلازم قولهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ما ءامنت}: ما صدقت بالآيات {قبلهم} يعني: قبل كفار مكة {من قرية أهلكناها} بالعذاب في الدنيا، يعني: كفار الأمم الخالية.
{أفهم يؤمنون}، يعني: كفار مكة، أفهم يصدقون بالآيات، فقد كذبت بها الأمم الخالية من قبلهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ما آمن من قبل هؤلاء المكذّبين محمدا من مشركي قومه الذين قالوا فليأتنا محمد بآية كما جاءت به الرسل قبله من أهل قرية عذّبناهم بالهلاك في الدنيا، إذ جاءهم رسولنا إليهم بآية معجزة.
"أفَهُمْ يُؤْمِنُونَ" يقول: أفهؤلاء المكذّبون محمدا السائلوه الآية يؤمنون به إن جاءتهم آية، ولم تؤمن قبلهمْ أسلافهم من الأمم الخالية التي أهلكناها برسلها مع مجيئها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفهم يؤمنون} أي لا يؤمن هؤلاء، وإن أتاهم بآية فإنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن أولئك المتقدمون، لأنهم يسألون سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد واستهداء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي إنا أظهرنا الآيات التي اقترحوها على الأمم الماضية، فلم يؤمنوا عندها، فأهلكناهم، فهؤلاء أيضا لا يؤمنون لو أنزلنا ما أرادوه. وأراد الله بهذا الاحتجاج عليهم أن يبين أن سبب مجيئ الآيات ليس لأنه سبب يؤدي إلى إيمان هؤلاء، وإنما مجيئها لما فيها من اللطف والمصلحة، بدلالة أنها لو كانت سببا لإيمان هؤلاء لكانت سببا لإيمان أولئك، فلما بطل أن تكون سببا لإيمان أولئك، بطل أن تكون سببا لإيمان هؤلاء على هذا الوجه. وقيل: إن معناه: إنا لما أظهرنا الآيات التي اقترحوها على الأمم الماضية، فلم يؤمنوا أهلكناهم، فلو أظهرنا على هؤلاء مثلها لم يؤمنوا وكانت تقتضي المصلحة أن نهلكهم. ومثله قوله (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة...) [الإسراء 59]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا و خالفوا، فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث.
... قال الحسن رحمه الله تعالى: إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أشار سبحانه إلى فساد طعنهم بما جعله هباء منثوراً،... أتبعه بيان ما عليهم فيه، فبين أولاً أن الآيات تكون سبباً للهلاك، فقال جواباً لمن كأنه قال: رب أجبهم إلى ما اقترحوه ليؤمنوا: {ما ءامنت} أي بالإجابة إلى الآيات المقترحات.، ولما كان المراد استغراق الزمان، جرد الظرف عن الخافض فقال: {قبلهم} أي قبل كفار مكة المقترحين عليك، وأعرق في النفي فقال: {من قرية} ولما كان المقصود التهويل في الإهلاك، كان إهلاك القرية دالاً على إهلاك أهلها من غير عكس، دل على إهلاك جميع المقترحين تحذيراً من مثل حالهم بوصفها بقوله في مظهر العظمة المقتضي لإهلاك المعاندين: {أهلكناها} أي على كثرتهم {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} [الإسراء: 17]، {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون} [الشعراء: 208]، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] "و ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر "وأشار بذلك إلى أنه لم يسلم عند البأس إلا قرية واحدة، وهم قوم يونس لأنهم آمنوا عند رؤية المخايل وقبل الشروع في الإهلاك، وهو إشارة إلى أن سبب الإيمان مشيئته سبحانه لا الآيات. ولما كانوا كمن قبلهم إن لم يكونوا دونهم، حسُن الإنكار في قوله: {أفهم يؤمنون} أي كلا! بل لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم حين لا ينفع الإيمان، وقد قضينا في الأزل أن لا نستأصل هذه الأمة إكراماً لنبيها، فنحن لا نجيبهم إلى المقترحات لذلك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وإنما أمسك الله الآيات الخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم، ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها.