تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (20)

لما بيَّن شهادته وشهادة رسوله على التوحيد ، وشهادةَ المشركين الذين لا علم لديهم على ضده ، ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى . { يَعْرِفُونَهُ } أي : يعرفون صحة التوحيد { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } أي : لا شك عندهم فيه بوجه ، كما أنهم لا يشتبهون بأولادهم ، خصوصا البنين الملازمين في الغالب لآبائهم .

ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن أهل الكتاب لا يشتبهون بصحة رسالته ولا يمترون بها ، لما عندهم من البشارات به ، ونعوته التي تنطبق عليه ولا تصلح لغيره ، والمعنيان متلازمان .

قوله { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : فوتوها ما خلقت له ، من الإيمان والتوحيد ، وحرموها الفضل من الملك المجيد { فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } فإذا لم يوجد الإيمان منهم ، فلا تسأل عن الخسار والشر ، الذي يحصل لهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (20)

ثم ساق القرآن شهادة ثالثة بصدق النبى صلى الله عليه وسلم وهى شهادة أهل الكتاب فقال { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } :

قال الجمل فى حاشيته على الجلالين : " روى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر : إن الله أنزل على نبيه بمكة : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد الله بن سلام : يا عمر ، لقد عرفته حين كما أعرف ابنى ، ولأنا أشد معرفة بمحمد منى بابنى ! ! فقال عمر : كيف ذلك ؟ فقال : أشهد انه رسول الله حقاً ولا أدرى ما تصنع النساء " .

والمعنى : إن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، يعرفون صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معرفة تماثل معرفتهم لأبنائهم الذين هم من أصلابهم ، فهى معرفة بلغت حد اليقين وذلك بسبب ما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته .

والضمير فى { يَعْرِفُونَهُ } يرى أكثر المفسرين أنه يعود على النبى صلى الله عليه وسلم ويؤيد ذلك سبب نزول الآية ، ويرى بعضهم أنه يعود على القرآن لتقدمه فى قوله { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن } أو على التوحيد لدلالة قوله { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } .

والأولى عودة الضمير على جميع ما ذكر ، لأن معرفتهم بما فى كتابهم يتناول كل ذلك .

ثم بين - سبحانه - علة إنكار المكابرين منهم لما يعرفونه من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم فقال : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } وقالوا { والله أَمَرَنَا بِهَا } وقالوا : " الملائكة بنات الله " ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحراً ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .

وهذه الآية الكريمة من الآيات التى قيل أنها مدنية ، والصحيح أنها مكية ، ويشهد لذلك سبب النزول الذى سقناه عن عمر - رضى الله عنه - فقد قال لعبد الله بن سلام : " إن الله أنزل على نبيه بمكة " إلخ .

ويؤكد كونها مكية - أيضا - سياق الآيات قبلها ، فالآية التى قبلها وهى قوله - تعالى - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } . إلخ . فيها شهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، والآية التى معنا فيها شهادة من أهل الكتاب بأنهم يعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ومن المعروف أن أهل مكة كانوا يسألون أهل الكتاب عن النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك لم يرد نص صحيح يثبت أن هذه الآية الكريمة قد نزلت بالمدينة .

قال بعض العلماء : ويظهر أنهم - أى القائلون بأن الآية مدنية - لما وجدوا الحديث فى هذه الآية عن أهل الكتاب ، ووجدوا أن هذه الآية نظيرة لآية أخرى مدنية تبدأ بما بدأت به ، وهى قوله - تعالى - : فى سورة البقرة

{ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } الاية 146 ، ومن المعروف أن صلة الإسلام بأهل الكتاب إنما كانت بعد الهجرة وفى المدينة دون مكة ، لما وجدوا هذا قرروا أن الآية مدنية ، فالمسألة ليست إلا اجتهاداً حسب رواية مسندة ، وهو اجتهاد غير صحيح .

ولما كان هذا الخسران أكبر ظلم ظلم به هؤلاء الكفار أنفسهم فقد قال - تعالى - فى شأنهم : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (20)

ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب : إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم{[10605]} به كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد{[10606]} صلى الله عليه وسلم وببعثه{[10607]} وصفتة ، وبلده ومُهَاجَرِه ، وصفة أمته ؛ ولهذا قال بعد هذا : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خسروا كل الخسارة ، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه .


[10605]:في أ: "جئتكم".
[10606]:في م: "النبي".
[10607]:في أ: "وبنعته".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمُۘ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (20)

جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن . أظهر الله دليلاً على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله { قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] ، فإنّه لمَّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به ، لأنّه هو الآية المعجزة العامَّة الدائمة . وقد علمت آنفاً أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره ؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالاً لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته ، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ { الذين آتيناهم الكتاب } بعض أهل الكتاب ، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق ، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل ، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها . وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس .

فالضمير المنصوب في قوله : { يعرفونه } عائد إلى القرآن الذي في قوله : { وأوحي إليّ هذا القرآن } [ الأنعام : 19 ] . والمراد أنَّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم ، ومن ذلك رسالة من جاء به ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم من البشارة به . والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى : { قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الرعد : 43 ] .

والتشبيه في قوله : { كما يعرفون أبناءهم } تشبيه المعرفة بالمعرفة . فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به ، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف ، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً .

وقيل : إنّ ضمير { يعرفونه } عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله : { إنّما هو إله واحد } [ الأنعام : 19 ] وهذا بعيد . وقيل : الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحاً ولا تأويلاً . ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجَّة وهي القرآن .

وقوله : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم ، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } [ النساء : 87 ] . فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة ، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب ، كقوله { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } [ الأحقاف : 10 ] . وقيل : أريد بهم أهل الكتاب ، أي الذين كتموا الشهادة ، فيكون { الذين خسروا } بدلاً من { الذين آتيناهم الكتاب } .