{ اتبعوا الْحَقُّ } الذي هو الصدق واليقين ، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم ، الصادر { مِنْ رَبِّهِمْ } الذي رباهم بنعمته ، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه ، فصلحت أمورهم ، فلما كانت الغاية المقصودة لهم ، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي الحق المبين ، كانت الوسيلة صالحة باقية ، باقيا ثوابها .
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر ، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة }
والإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل } تعود إلى ما مر من ذم الكافرين ، ومدح المؤمنين .
أى : ذلك الذين حكمنا به من ضلال أعمال الكافرين ، ومن إصلاح بال المؤمنين ، سببه أن الذين كفروا ابتعوا فى دنياهم الطريق الباطل الذى لا خير فيه ولا فلاح . وأن الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحاة فى دنياهم ، اتبعوا طريق الحق الكائن من ربهم .
فالمراد بالباطل هنا . الكفر وما يتبعه من أعمال قبيحة ، والمراد بالحق : الإِيمان والعمل الصالح .
وقوله { ذَلِكَ } مبتدأ ، وخبره ما بعده .
وقوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أى : مثل ذلك البيان الرائع الحكيم ، يبين الله - تعالى - : للناس أحوال الفريقين ، وأوصافهما الجارية فى الغرابة مجرى الأمثال ، وهى اتباعُ المؤمنين الحقَّ وفوزُهم ، واتباعُ الكافرين الباطَل وخسرانهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين ضرب الأمثال ؟ قلت : فى جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعلم المؤمنين ، أو فى أن جعل الإِضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين .
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } أي : إنما أبطلنا أعمال الكفار ، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شؤونهم ؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ، أي : اختاروا الباطل على الحق ، { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي : يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم .
{ ذلك } إشارة إلى مرة من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره . { بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } بسبب اتباع هؤلاء الباطل واتباع هؤلاء الحق ، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبلها ولذلك سمي تفسيرا . { كذلك } مثل ذلك الضرب . { يضرب الله للناس } يبين لهم . { أمثالهم } أحوال الفريقين أو أحوال الناس ، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا للمؤمنين ، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ } .
هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين . والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكملَ تمييز تنويهاً به . وقد ذُكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه .
والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين ، وهما { أضل أعمالهم } [ محمد : 1 ] و { كفَّر عنهم سيئاتهمْ وأصلح بالهم } [ محمد : 2 ] ، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما .
واسم الإشارة مبتدأ ، وقوله : { بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } الخ خبره ، والباء للسببيّة ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة ، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق ، ولما كان ذلك جامعاً للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقاً بالخبرين وسبباً لهما . وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسيرَ لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدمَ أو تأخَّرَ . وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية :
قوم إذا حاربوا ضَرّوا عدوَّهم *** أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفَعوا
سَجية تلكَ فيهم غير مُحدثـة *** إنَّ الخَــلائق فاعَلمْ شرُّها البِدَع
قال في « الكشاف » : وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير ، يريد أنه من المحسنات البديعية . ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لمّا فسر لطلبته هذه الآية فقُيد عنه في الحواشي قوله :
به فُجع الفرسان فوق خيولهم *** كما فُجعت تحت الستور العواتق
تساقط من أيديهم البِيضُ حيرة *** وزُعزع عن أجيادهن المخانق
وفي هذه الآية محسِّن الطباق مرتين بين { الذين كفروا } و { الذين آمنوا } وبين { الحق } و { الباطل } . وفي بيتي الزمخشري محسّن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت . واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليتان لهيئتي العمل بما يأمر به أيمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن ، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق .
ووصف { الحق } بأنه { من ربهم } تنويه به وتشريف لهم .
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } .
تذييل لما قبله ، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بياناً واضحاً .
والمعنى : قد بيّنا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلاً وإجمالاً ، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين ، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس أحوالهم كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات .
ومعنى { يضرب } : يلقي وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق ، وتقدم عند قوله تعالى : { أن يضرب مثلاً } ما في سورة البقرة ( 26 ) .
والأمثال : جمع مثَل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها ، أي تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره . واللام للأجل ، والمراد بالناس جميع الناس . وضمير { أمثالهم } للناس .
والمعنى : كهذا التبيين يبّين الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شؤون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحِجَاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب ، ولكي يكونوا على بصيرة في شؤونهم ، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقاً ، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.