{ 51 - 55 ْ } { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
يأمر تعالى بعبادته وحده لا شريك له ، ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية فقال : { لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : تجعلون له شريكا في إلهيته ، وهو { إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } متوحد في الأوصاف العظيمة متفرد بالأفعال كلها . فكما أنه الواحد في ذاته وأسمائه ونعوته وأفعاله ، فلتوحِّدوه في عبادته ، ولهذا قال : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي : خافوني وامتثلوا أمري ، واجتنبوا نهيي من غير أن تشركوا بي شيئا من المخلوقات ، فإنها كلها لله تعالى مملوكة .
وبعد أن بين - سبحانه - أن كل شئ فى هذا الكون خاضع لقدرته ، أتبع ذلك بالنهى عن الشرك ، وبوجوب إخلاص العبادة له ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ . . . } . قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - سبحانه - لما بين فى الآيات الأولى ، أن ما سوى الله - تعالى - سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام ، منقاد وخاضع لجلاله - تعالى - وكبريائه - أتبعه فى هذه الآية بالنهي عن الشرك ، وببيان أن كل ما سواه واقع فى ملكه وتحت تصرفه ، وأنه غني عن الكل ، فقال - تعالى - : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين . . . } .
أي : وقال الله - تعالى - لعباده عن طريق رسله عليهم الصلاة والسلام - لا تتخذوا شركاء معي في العبادة والطاعة ، بل اجعلوهما لي وحدي ، فأنا الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء .
قال الآلوسى : وقوله : { وقال الله . . } معطوف على قوله - سبحانه - { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . } وإظهار الفاعل ، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر ، للإِيذان بأنه - تعالى - متعين الألوهية والمنهي عنه هو الإشراك به ، لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ إلهين . . .
{ اثنين } صفة للفظ إلهين أو مؤكد له . وخص هذا العدد بالذكر ؛ لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى .
وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } بيان وتوكيد لما قبله ، وهو مقول لقوله - سبحانه - { وقال الله } .
أي : وقال الله لا تتخذوا معي فى العبادة إلها آخر ، وقال - أيضا - إنما المستحق للعبادة إله واحد ، والقصر فى الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة ، أي : الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية .
وقد نهى - سبحانه - عن الشرك في آيات كثيرة ، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله - تعالى - { . . . وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وقوله - سبحانه - { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } والفاء فى قوله : { فإياي فارهبون } واقعة فى جواب شرط مقدر ، و { إياي } مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا ، يدل عليه قوله : { فارهبون } .
والرهبة : الخوف المصحوب بالتحرز ، وفعله رهب بزنة طرب .
والمعنى : إن رهبتم شيئا فإياي فارهبوا دون غيري ، لأني أنا الذي لا يعجزني شيء .
وفى الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب ، للمبالغة فى التخويف ، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب ، لاسيما بعد أن وصف - سبحانه - ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء .
وقدم المفعول وهو إياي ؛ لإِفادة الحصر ، وحذف متعلق الرهبة ، للعموم .
أي : ارهبوني فى جميع ما تأتون وما تذرون .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهي عن الشرك ، والأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، تارة عن طريق التقرير { وقال الله . . } وتارة عن طريق النهي الصريح ، وتارة عن طريق القصر ، وتارة عن طريق التخصيص .
وذلك لكي يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء ، ويؤمنوا بالله الواحد القهار .
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } ذكر العدد مع أن المعدود يدل عليه دلالة على أن مساق النهي إليه ، أو إيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية كما ذكر الواحد في قوله : { إنما هو إله واحد } للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية دون الإلهية ، أو للتنبيه على أن الوحدة من لوازم الإلهية . { فإياي فارهبون } نقل من الغيبة إلى التكلم مبالغة في الترهيب وتصريحا بالمقصود فكأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد فإياي فارهبون لا غير .
وقوله { وقال الله } الآية ، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها : لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً ، بما ينصه من قوله { إنما هو إله واحد } ، قالت فرقة : المفعول الأول ب { تتخذوا } قوله { إلهين } ، وقوله { اثنين } تأكيد وبيان بالعدد ، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً ، ومنه قوله { إله واحد }{[7332]} لأن لفظ { إله } يقتضي الانفراد ، وقال قوم منهم : المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا ، وقالت فرقة : المفعول الأول { اثنين } ، والثاني قوله { إلهين } ، وتقدير الكلام : لا تتخذوا اثنين إلهين ، ومثله قوله تعالى : { ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح } {[7333]}[ الإسراء : 2-3 ] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول لِ { تتخذوا } ، وقوله : { فإياي } منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل ؛ لأنه قد عمل في الضمير المتصل به .
لما أُشبع القول في إبطال تعدّد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب ، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن ، نُقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشّرك متّبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشرّ ، تقلّدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كِسرى وعوائدُهم ، مثلُ بني بكر بن وائل وبني تميم ، فقد دان منهم كثير بالمجوسية ، أي المَزْدكية والمانوية في زمن كِسرى أبرويش وفي زمن كِسرى أنوشروان ، والمجوسية تثبت عقيدةً بإلهين : إلهٍ للخير وهو النّور ، وإلهٍ للشرّ وهو الظلمة ، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام ، وإله الشرّ لا يصدر عنه إلا الشرّ والآلام ، وسمّوا إله الخير ( يَزْدَان ) ، وسموا إله الشرّ ( اَهْرُمُنْ ){[258]} . وزعموا أن يزدان كان منفرداً بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير ، فخطر في نفسه مرةً خاطرُ شرّ فتولّد عنه إلهٌ آخرُ شريك له هو إله الشرّ ، وقد حكى هذا المعرّي في لزومياته بقوله :
فَكّرَ يَزْدانُ على غِرة *** فصيغ من تفكيره أهْرُمُنْ
ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صُوراً مجسّمة ، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة . وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبُد صُوَراً محسوسة . وسيأتي الكلام على المجوسيّة عند تفسير قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } إلى قوله { والمَجوسَ } في سورة الحج ( 170 ) .
ويدلّ على أن هذا الدين هو المراد التّعقيب بآية { ما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجأرون } [ سورة النحل : 53 ] كما سيأتي .
فقوله تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } عطف قصّة على قصّة وهو مرتبط بجملة { ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ سورة النحل : 36 ] .
ومعنى { وقال الله لا تتخذوا إلهين } أنه دعا الناس ونَصب الأدلّة على بطلان اعتقاده . وهذا كقوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } [ سورة الفتح : 15 ] وقوله : { كذلكم قال الله من قبل } [ سورة الفتح : 15 ] .
وصيغة التّثنية من قوله : { إلهين } أكدت بلفظ { اثنين } للدّلالة على أن الإثنينية مقصودة بالنّهي إبطالاً لشرك مخصوص من إشراك المشركين ، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين . ووقع في « الكشاف » توجيه ذكر { اثنين } بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازاً .
وإذ نُهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة .
وجملة { إنما هو إله واحد } يجوز أن تكون بياناً لجملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } ، فالجملة مقولة لفعل { وقال الله } لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر{[259]} :
أقول له ارحَلْ لا تَقيمَنّ عندنا
فلذلك فُصلت ، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبلُ بدلالة الاقتضاء .
والضمير من قوله تعالى : { إنما هو إله واحد } عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { وقال الله } ، أي قال الله إنما الله إله واحد ، وهذا جَريٌ على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا ، وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام { أن اعبدوا الله ربي وربكم } [ سورة المائدة : 117 ] ف { أن اعبدوا الله } مفسرُ « أمَرْتني » ، وفعل « أمَرْتني » فيه معنى القول ، والله قال له : قل لهم اعبُدوا الله ربك وربهم ، فحكاه بالمعنى ، فقال : ربّي .
والقصر في قوله : { إنما هو إله واحد } قصر موصوف على صفة ، أي الله مختصّ بصفة توحّد الإلهية ، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله .
ويجوز أن تكون جملة { إنما هو إله واحد } معترضةً واقعة تعليلاً لجملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } أي نَهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد ، أي والله هو مسمّى إله فاتّخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية .
وحصر صفة الوحدانية في عَلَم الجلالة بالنّظر إلى أن مسمّى ذلك العلم مساوٍ لمسمّى إله ، إذ الإله منحصر في مسمّى ذلك العلَم .
وتفريع { فإياي فارهبون } يجوز أن يكون تفريعاً على جملة { لا تتخذوا إلهين اثنين } فيكون { فإياي فارهبون } من مقول القول ، ويكون في ضمير المتكلم من قوله : { فارهبون } التفات من الغيبة إلى الخطاب .
ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل { وقال الله } فلا يكون من مقول القول ، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري . وليس في الكلام التفات على هذا الوجه .
وتفرّع على ذلك قوله تعالى : { فإياي فارهبون } بصيغة القصر ، أي قصر قلب إضافياً ، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضرّ أحد . وهو ردّ على الذين يرهبون إله الشرّ فالمقصود هو المرهوب .
والاقتصار على الأمر بالرّهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الردّ على الذين يطمعون في إله الخير بطريق الأولى ، وإنما اقتصر على الرّهبة لأن شأن المزدكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشرّ لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير .
ووقع في ضمير { فإياي } التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلّي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقاً لتقرير العقيدة الأصلية . وفي هذا الالتفات اهتمام بالرّهبة لما في الالتفات من هزّ فهم المخاطبين . وتقدّم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة .
واقتران فعل { فارهبون } بالفاء ليكون تفريعاً على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلّق فعل « ارهبون » بالمفعول لفظاً يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر ، فيكون التقدير : فإياي ارهبُوا فارهبون ، أي أمرتكم بأن تقصُروا رهبتكم عليّ فارهبون امتثالاً للأمر .