ثم بين - سبحانه - ما يحل بالمجرمين فى هذا اليوم من عذاب فقال : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله : { بِسِيمَاهُمْ } أى : بعلاماتهم التى تدل عليهم ، وهى زرقة العيون . وسواد الوجوه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ . . . } وكما فى قوله - سبحانه - : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً . . . } والنواصى : جمع ناصية ، وهى مقدم الرأس . والأقدام : جمع قدم ، وهو ظاهر الساق ، و " ال " فى هذين اللفظين عوض عن المضاف إليه .
والمراد بالطواف فى قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا . . } كثرة التردد والرجوع إليها بين وقت وآخر .
والحميم : الماء الشديد الغليان والحرارة .
و { آنٍ } : أى : قد بلغ النهاية فى شدة الحرارة ، يقال : أَنَى الحميم ، أى انتهى حره إلى أقصى مداه ، فهو آن وبلغ الشىء أناه - بفتح الهمزة وكسرها - إذا وصل إلى غاية نضجه وإدراكه ، ومنه قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أى : نضجه .
أى : فى هذا اليوم ، وهو يوم الحساب والجزاء { يُعْرَفُ المجرمون } بسواد وجوههم ، وزرقة عيونهم ، وبما تعلو أفئدتهم من غبرة ترهقها قترة . فتأخذ الملائكة بالشعر الذى فى مقدمة رءوسهم ، وبالأمكنة الظاهرة من سيقانهم ، وتقذف بهم فى النار ، وتقول لهم على سبيل الإهانة والإذلا : هذه جهنم التى كنتم تكذبون بها فى الدنيا أيها المجرمون ، فترددوا بين مائها الحار ، وبين سعيرها البالغ النهاية فى الشدة .
وفى قوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام } إشارة إلى التمكن منهم تمكنا شديدا ، بحيث لا يستطيعون التفلت أو الهرب .
وقد ختمت كل آية من هذه الآيات السابقة بقوله - تعالى - : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } لأن عقاب العصاة المجرمين ، وإثابة الطائعين المتقين ، يدل على كمال عدله - سبحانه - ، وعلى فضله ونعمته على من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .
قال الإمام ابن كثير : ولما كان معاقبة العصاة المجرمين ، وتنعيم المتقين ، ومن فضله . ورحمته ، وعدله ، ولطفه بخلقه ، وكان إنذاره لهم من عذابه وبأسه ، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصى وغير ذلك قال ممتنا بذلك على بريته { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
وقوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي : تارة يعذبون في الجحيم ، وتارة يسقون من الحميم ، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب ، يقطع الأمعاء والأحشاء ، وهذه كقوله تعالى : { إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71 ، 72 ] .
وقوله : { آن } أي : حار وقد بلغ الغاية في الحرارة ، لا يستطاع من شدة ذلك .
قال ابن عباس في قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } قد انتهى غلْيه ، واشتد حرّه . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن ، والثوري ، والسدي .
وقال قتادة : قد أنَى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض . وقال محمد بن كعب القرظي : يؤخذ العبد فيحرّكُ بناصيته في ذلك الحميم ، حتى يذوب {[27907]} اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس . وهي كالتي يقول الله تعالى : { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } . والحميم الآن : يعني الحار . وعن القرظي رواية أخرى : { حَمِيمٍ آنٍ } أي : حاضر . وهو قول ابن زيد أيضا ، والحاضر ، لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار ، كقوله تعالى : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ] أي حارة شديدة الحر لا تستطاع . وكقوله : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ الأحزاب : 53 ] يعني : استواءه ونضجه . فقوله : { حَمِيمٍ آنٍ } أي : حميم حار جدا .
وقوله : يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَينَ حَمِيمٍ آنٍ يقول تعالى ذكره : يطوف هؤلاء المجرمون الذين وصف صفتهم في جهنم بين أطباقها وَبينَ حَمِيمٍ آنٍ يقول : وبين ماء قد أسخن وأغلي حتى انتهى حرّه وأنى طبخه وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى ومنه قوله : غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ يعني : إدراكه وبلوغه ، كما قال نابغة بني ذُبيان :
ويُخْضَبْ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخانَتْ *** بأحمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجَوْفِ آني
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : وَبينَ حَمِيمٍ آنٍ يقول : انتهى حرّه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَبَين حَمِيم آنٍ يقول : غلي حتى انتهى غليه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَبينَ حَمِيمٍ آنٍ قال : قد بلغ إناه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : الاَني الذي قد انتهى حرّه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب ، عن بشر ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَينَ حَمِيمٍ آنٍ قال : الاَني : ما اشتدّ غليانه ونضجه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : حَمِيمٍ آنٍ هو الذي قد انتهى غَلْيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة وَبَينَ حَمِيمٍ آنٍ قال : أنى طبخها منذ يوم خلق الله السموات والأرض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَينَ حَمِيمٍ آنٍ يقول : حميم قد أنى طبخه منذ خلق الله السموات والأرض .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن حَمِيمٍ آنٍ يقول : حميم قد آن منتهى حرّه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان حَمِيمٍ آنٍ قال : قد انتهى حرّه .
وقال بعضهم : عني بالاَني : الحاضر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قال : يطوفون بينها وبين حميم حاضر ، الاَني : الحاضر .
وقرأ جمهور الناس : «يَطُوفون » بفتح الياء وضم الطاء وسكون الواو . وقرأ طلحة بن مصرف : «يُطَوّفون » بضم الياء وفتح الطاء وشد الواو . وقرأ أبو عبد الرحمن : «يطافون » ، وهي قراءة علي بن أبي طالب . والمعنى في هذا كله أنهم يترددون بين نار جهنم وجمرها { وبين حميم } وهو ما غلي في جهنم من مائع عذابها . والحميم : الماء السخن . وقال قتادة : إن العذاب الذي هو الحميم يغلي منذ خلق الله جهنم . وأنى الشيء : حضر ، وأنى اللحم أو ما يطبخ أو يغلى : نضج وتناهى حره والمراد منه . ويحتمل قوله : { آن } أن يكون من هذا ومن هذا . وكونه من الثاني أبين ، ومنه قوله تعالى : { غير ناظرين إناه }{[10838]} [ الأحزاب : 53 ] ومن المعنى الآخر قول الشاعر [ عمرو بن حسان الشيباني ] : [ الوافر ]
*** أنى ولكل حاملة تمام{[10839]}
ويشبه أن يكون الأمر في المعنيين قريباً بعضه من بعض ، والأول أعم من الثاني .
والطواف : ترداد المشي والإِكثار منه ، يقال : طاف به ، وطاف عليه ، ومنه الطواف بالكعبة ، والطواف بالصفا والمروة ، قال تعالى : { فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما } وتقدم في سورة البقرة ( 158 ) .
والحميمُ : الماء المغلَّى الشديد الحرارة .
والمعنى : يمشون بين مكان النار وبين الحميم فإذا أصابهم حرّ النار طلبوا التبرد فلاح لهم الماء فذهبوا إليه فأصابهم حرُّه فانصرفوا إلى النار دَوَاليْك وهذا كقوله : { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَينَ حَمِيمٍ آنٍ "يقول تعالى ذكره: يطوف هؤلاء المجرمون الذين وصف صفتهم في جهنم بين أطباقها "وَبينَ حَمِيمٍ آنٍ" يقول: وبين ماء قد أسخن وأغلي حتى انتهى حرّه وأنى طبخه، وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى ومنه قوله: "غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ" يعني: إدراكه وبلوغه...
وقال بعضهم: عني بالآني: الحاضر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يطوفون بينها وبين حميم آن} أي يطوفون بين جهنم وبين حميم. فيجوز أنه كنى بجهنم عما يأكلون، وهي النار، والحميم عما يشربون؛ كأنه يقول، والله أعلم: يطوفون بين ما يأكلون وبين ما يشربون: لا يشبعون مما يأكلون، ولا يروون مما يشربون، بل كلما أكلوا زادتهم جوعا، وكلما شربوا زادتهم عطشا. والحميم، هو الشراب الذي جعل لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
. «يطوّفون» من التطويف. ويطوّفون، أي: يتطوّفون ويطافون...
ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه برحمته وفضله، وما في الإنذار به من اللطف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يطوفون بينها وبين حميم آن).. متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار! وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني. انظروا إنهم يطوفون الآن!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والطواف: ترداد المشي والإِكثار منه، يقال: طاف به، وطاف عليه، ومنه الطواف بالكعبة، والطواف بالصفا والمروة..
أما كيف يكون ذلك فالله أعلم، لكننا نؤمن بأنهم يطوفون بينها وبين الحميم الحار الشديد الحرارة..