ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصى فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب .
قال تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } وقد اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم : إن التي توزن هى صحائف الأعمال التي كتبت فيها الحسنات والسيئات تأكيداً للحجة وإظهاراً للنصفة ، وقطعا للمعذرة . قال ابن عمر : " توزن صحائف أعمال العباد يوم القيامة " .
وقيل : إن الوزن هنا كناية عن القضاء السوى ، والعدل التام في تقدير ما يمكن به الجزاء من الأعمال ، وذكر الوزن إنما هو ضرب مثل كما تقول : هذا الكلام في وزن هذا وفى وزانه . أى يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وزن .
والذى نراه أن من الواجب علينا أن نؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال ، وأنه على مقدار ما يظهر يكون الجزاء ، وأنه وزن أو ميزان يليق بما يجرى في ذلك اليوم الهائل الشديد ، أما كيفية هذا الوزن فمرده إلى الله ، لأنه شىء استأثر الله بعلمه ، وعلينا أن نعفى أنفسنا من محاولة الكشف عن أمر غيبى لم يرد في حقيقته خبر قاطع في كتاب الله أو سنة رسوله .
قال الجمل في حاشيته على الجلالين : فإن قلت : أليس الله - تعالى - يعلم مقادير أعمال العباد ، فما الحكمة في وزنها ؟ قلت فيه حكم : منها ، إظهار العدل وأن الله - تعالى - لا يظلم عباده ، ومنها : امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى . ومنها تعريف العباد بما لهم من خير أو شر وحسنة أو سيئة ، ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه - سبحانه - " أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ وفى صحائف الحفظة الموكلين ببنى آدم من غير جواز النسيان عليه " .
وقوله - تعالى - : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن ، وثقل الموازين المراد به رجحان الأعمال الحسنة على غيرها ، كما أن خفة الموازين المراد بها رجحان الأعمال القبيحة على ما سواها .
وقوله - تعالى - : { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } متعلق بخسروا ؛ أى : أن خسرانهم لأنفسهم في الآخرة كان سببه جحودهم لآيات الله واستهزاءهم بها في الدنيا .
يقول [ تبارك و ]{[11559]} تعالى : { وَالْوَزْن } أي : للأعمال{[11560]} يوم القيامة { الْحَق } أي : لا يظلم تعالى أحدا ، كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 6 - 11 ] وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 101 - 103 ] .
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة{[11561]} قيل : الأعمال وإن كانت أعراضًا ، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما .
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس{[11562]} كما جاء في الصحيح من أن " البقرة " و " آل عمران " يأتيان{[11563]} يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو : غيَايَتان - أو فِرْقَان من طير صَوَافّ . من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك{[11564]} وفي حديث البراء ، في قصة سؤال القبر : " فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح " {[11565]} وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق .
وقيل : يوزن كتاب الأعمال ، كما جاء في حديث البطاقة ، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر ، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها : " لا إله إلا الله " فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى : إنك لا تُظلَم . فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَطاشَت السجلات ، وثَقُلَتِ البطاقة " .
رواه الترمذي بنحو من هذا{[11566]} وصححه .
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : " يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين ، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة " {[11567]} ثم قرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ الكهف : 105 ] .
وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : " أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ ، فوالذي{[11568]} نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ " {[11569]}
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا ، فتارة{[11570]} توزن الأعمال ، وتارة توزن محالها ، وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلََئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : ومن خفت موازين أعماله الصالحة فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله والإيمان به وبرسوله واتباع أمره ونهيه ، فأولئك الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته بِمَا كانَوا بآياتِنا يَظْلِمُونَ يقول : بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون ، فلا يقرّون بصحتها ، ولا يوقنون بحقيقتها . كالذي :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن مجاهد : وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ قال : حسناته .
وقيل : «فأولئك » و«مَنْ » في لفظ الواحد ، لأن معناه الجمع ، ولو جاء موحدا كان صوابا فصيحا .
وقوله تعالى : { ومن خفت موازينه } الآية ، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت ، و { خسروا أنفسهم } أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة ، وقوله : { بما كانوا } أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني ، و «ما » في هذا الموضع مصدرية ، و «الآيات » هنا البراهين والأوامروالنواهي و { يظلمون } أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب .