{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } أي : بل ضعف ، وقل ولم يكن يقينا ، ولا علما واصلا إلى القلب وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه ، بل ليس عندهم علم قوي ولا ضعيف وإنما { هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي : من الآخرة ، والشك زال به العلم لأن العلم بجميع مراتبه لا يجامع الشك ، { بَلْ هُمْ مِنْهَا } أي : من الآخرة { عَمُونَ } قد عميت عنها بصائرهم ، ولم يكن في قلوبهم من وقوعها ولا احتمال بل أنكروها واستبعدوها ، ولهذا قال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ } أي : هذا بعيد غير ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك أقوالهم الباطلة ، التى جعلتهم فى عمى عن الآخرة فقال : { وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } .
أى : وقال الذين كفروا على سبيل الإنكار للبعث والحساب : أئذا متنا وصرنا مثل التراب ، وصار آباؤنا كذلك مثل التراب ، أنبعث ونخرج إلى الحياة مرة أخرى بعد أن صرنا جميعا عظاما نخرة وأجسادا بالية ؟
يقولون ذها ، وينسون لجهلهم وانطماس بصائرهم أن الله - تعالى - أوجدهم بقدرته ولم يكونوا شيئا مذكورا .
والاستفهام للإنكار والنفى ، والعامل فى " إذا " محذوف ، دل عليه " مخرجون " وقوله " { وَآبَآؤُنَآ } معطوف على اسم كان ، أى : أنبعث ونخرج نحن وآباؤنا إذا كنا كذلك ؟
وقال الذين كفروا : أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون ? . .
وهذه كانت العقدة التي يقف أمامها الذين كفروا دائما : أإذا فارقتنا الحياة ، ورمت أجسادنا وتناثرت في القبور ، وصارت ترابا . . أإذا وقع هذا كله - وهو يقع للموتى بعد فترة من دفنهم إلا في حالات نادرة شاذة - أإذا وقع هذا لنا ولآبائنا الذين ماتوا قبلنا يمكن أن نبعث أحياء كرة أخرى ، وأن نخرج من الأرض التي اختلط رفاتنا بترابها فصار ترابا ?
يقولون هذا وتقف هذه الصورة المادية بينهم وبين تصور الحياة الأخرى . وينسون أنهم خلقوا أول مرة ولم يكونوا من قبل شيئا . ولا يدري أحد أين كانت الخلايا والذرات التي تكونت منها هياكلهم الأولى . فلقد كانت مفرقة في أطواء الأرض وأعماق البحار وأجواز الفضاء . فمنها ما جاء من تربة الأرض ، ومنها ما جاء من عناصر الهواء والماء ، ومنها ما قدم من الشمس البعيدة ، ومنها ما تنفسه إنسان أو نبات أو حيوان ، ومنها ما انبعث من جسد رم وتبخرت بعض عناصره في الهواء ! . . ثم تمثلت هذه الخلايا والذرات في طعام يأكلونه ، وشراب يشربونه ، وهواء يتنفسونه ، وشعاع يستدفئون به . . ثم إذا هذا الشتيت الذي لا يعلم عدده إلا الله ، ولا يحصي مصادره إلا الله ، يتجمع في هيكل إنسان ؛ وهو ينمو من بويضة عالقة في رحم ، حتى يصير جسدا مسجى في كفن . . فهؤلاء في خلقتهم أول مرة ، فهل عجب أن يكونوا كذلك أو على نحو آخر في المرة الآخرة ! ولكنهم كانوا هكذا يقولون . وبعضهم ما يزال يقوله اليوم مع شيء من الاختلاف !
{ وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون } كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه { أئنا لمخرجون } ، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها ، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار ، والمراد بالإخراج الإخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة ، وقرأ نافع " إذا كنا " بهمزة واحدة مكسورة ، وقرأ ابن عامر والكسائي " إننا لمخرجون " بنونين على الخبر .
أعقب وصف عماية الزاعمين علم الغيب بذكر شبهتهم التي أرتهم البعث مستحيل الوقوع ، ولذلك أسند القول هنا إلى جميع الذين كفروا دون خصوص الذين يزعمون علم الغيب ، ولذلك عطفت الجملة لأنها غايرت التي قبلها بأنها أعم .
والتعبير عنهم باسم الموصول لما في الموصول من الإيماء إلى علة قولهم هذه المقالة وهي ما أفادته الصلة من كونهم كافرين فكأنه قيل وقالوا بكفرهم أإذا كنا تراباً . . إلى آخره استفهاماً بمعنى الإنكار .
أتوا بالإنكار في صورة الاستفهام لتجهيل معتقد ذلك وتعجيزه عن الجواب بزعمهم . والتأكيد ب { إنّ } لمجاراة كلام المردود عليه بالإنكار . والتأكيد تهكم .
وقرأ نافع وأبو جعفر { إذا كنا تراباً } بهمزة واحدة هي همزة ( إذا ) على تقدير همزة استفهام محذوفة للتخفيف من اجتماع همزتين ، أو بجعل ( إذا ) ظرفاً مقدّماً على عامله والمستفهم عنه هو { إنا لمخرجون } .
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بهمزتين في { أإذا وأإنا } على اعتبار تكرير همزة الاستفهام في الثانية لتأكيد الأولى ، إلا أن أبا عمرو خفف الثانية من الهمزتين في الموضعين وعاصماً وحمزة حققاهما . وهؤلاء كهلم حذفوا نون المتكلم المشارك تخفيفاً من الثقل الناشىء من وقوع نون المتلكم بعد نون ( إن ) . وقرأ ابن عامر والكسائي { أإذا } بهمزتين و { إننا } بهمزة واحدة وبنونين اكتفاء بالهمزة الأولى للاستفهام ، وكلها استعمال فصيح .
وقد تقدم في سورة المؤمنين حكاية مثل هذه المقالة عن الذين كفروا إلا أن اسم الإشارة الأول وقع مؤخراً عن { نحن في سورة المؤمنين } ( 83 ) ووقع مقدماً عليه هنا ، وتقديمه وتأخيره سواء في أصل المعنى لأنه مفعول ثاننٍ ل { وعدنا } وقع بعد نائب الفاعل في الآيتين . وإنما يتجه أن يُسأل عن تقديمه على توكيد الضمير الواقع نائباً على الفاعل . وقد ناطها في « الكشاف » بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الغرض المعتمد بالذكر وبسوق الكلام لأجله . وبينه السكاكي في « المفتاح » بأن ما وقع في سورة المؤمنين كان بوضع المنصوب بعد المرفوع وذلك موضعه . وأما ما في سورة النمل فقدم المنصوب على المرفوع لكونه فيها أهم ، يدلك على ذلك أن الذي قبله { إذا كنا تراباً وءاباؤنا } والذي قبل آية سورة المؤمنين { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً } [ المؤمنون : 82 ] فالجهة المنظور فيها هناك ( في سورة المؤمنين ) هي كون أنفسهم تراباً وعظاماً ، والجهة المنظور فيها هنا في سورة النمل هي كون أنفسهم وكون آبائهم تراباً لا جزء هناك من بناهم ( جمع بنية ) على أي باقياً صورة نفسه ( أي على صورته التي كان عليها وهو حي ) . ولا شبهة أنها أدخل عندهم في تبعيد البعث فاستلزم زيادة الاعتناء بالقصد إلى ذكره فصيره هذا العارض أهم اه .
وحاصل الكلام أن كل آية حكت أسلوباً من مقالهم { بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا } [ المؤمنون : 81 ، 82 ] { لقد وُعدنا هذا نحن وءاباؤنا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.