فأجاب تعالى بقوله : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } مما أمركم من الأعمال الباطنة ، كمحبة اللّه ، وخشيته ، وخوفه ، ورجائه ، والنصح لعباده ، ومحبة الخير لهم ، وترك ما يضاد ذلك .
ومن الأعمال الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة والصيام ، والحج ، والصدقة ، وأنواع الإحسان ، ونحو ذلك ، مما أمر اللّه به ، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم ، . { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } وكل هذا حثٌّ على المبادرة وانتهاز الفرصة .
ثم أمرهم باتباع أوامر القرآن الكريم ونواهيه فقال : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ }
أى : واتبعوا هذا القرآن الكريم ، الذى هو أحسن ما أنزله - سبحانه - إليكم ، بسبب ما اشتمل عليه من هدايات سامية ، ومن تشريعات حكيمة ، ومن آداب قويمة .
فإن اتباع ما اشتمل عليه هذا القرآن من توجيهات . يؤدى إلى السعادة فى الدنيا والآخرة .
وقوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } متعلق بالأمر بالاتباع ، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف .
أى : سارعو إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن ، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات ، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله .
فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها : من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح .
وقوله تعالى : { واتبعوا أحسن } معناه : أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وِعَدات على الطاعات والبر وحدوداً على المعاصي ووعيداً على بعضها ، فالأحسن أن يسلك أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل ، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو ذلك ، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد ، فهذا المعنى هو المقصود ب { أحسن } ، وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن ، وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها . قال السدي : الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه . و : { بغتة } معناه : فجأة وعلى غير موعد . و : { تشعرون } مشتق من الشعار .
{ أحسن ما أُنزِلَ } هو القرآن وهو معنى قوله : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] . والحظ للمشركين في هذه الآية لأن المسلمين قد اتّبعوا القرآن كما قال تعالى : { فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه } [ الزمر : 17 ، 18 ] .
و { أحْسَنَ } اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن ، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض لأن جميع ما في القرآن حسن فهو من باب قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] .
وإضافة { أحْسَنَ } إلى { مَا أُنْزِل } من إضافة الصفة إلى الموصوف .
والعذاب المذكور في هذه هو العذاب المذكور قبلُ بنوعيه وكله بغتة إذ لا يتقدمه إشعار ، فعذاب الدنيا يحلّ بغتة وعذاب الآخرة كذلك لأنه تظهر بوارقه عند البعث وقد أتاهم عذاب السيف يوم بدر ويأتيهم عذاب الآخرة يوم البعث .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} من القرآن.
{من ربكم} يعني ما ذكر من الطاعة من الحلال والحرام.
{من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة} يعني فجأة {وأنتم لا تشعرون} حين يفجؤكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَاتّبِعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ" يقول تعالى ذكره: واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا.
فإن قال قائل: ومن القرآن شيء وهو أحسن من شيء؟ قيل له: القرآن كله حسن، وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر، والمثل، والقصص، والجدل، والوعد، والوعيد أحسنه أن تأتمروا لأمره، وتنتهوا عما نهى عنه، لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه، فذلك وجهه...
وقوله: "مِنْ قَبْلِ أنْ يَأْتِيَكُمُ العَذابُ بَغْتَةً "يقول: من قبل أن يأتيكم عذاب الله فجأة، "وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ" يقول: وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم فجأة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ولا تؤخّروا الإنابة إليه والتوبة فإن العذاب لعله سينزل بكم في وقت لا تشعرون أنتم به، ولا تقدرون أن ترجعوا إليه، وتنيبوا...
اعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء:
فالأول: أمر بالإنابة وهو قوله تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم}.
والثاني: أمر بمتابعة الأحسن...
{من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون} والمراد منه التهديد والتخويف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه، أمر بما هو أعلى من ذلك، وهو المجاهدة بقتل النفس، فقال: {واتبعوا} أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع {أحسن ما أنزل} واصلاً {إليكم} على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون "كأنك تراه "الذي هو أعلى من استحضار، "إنه يراك" الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك. ولما كان هذا شديداً على النفس، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار: {من ربكم} أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم.
ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً على رفقه بإثبات الجار: {من قبل أن يأتيكم} أي على ما بكم من العجز عن الدفاع.
{العذاب} أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة.
ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال: {بغتة} ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته، نفى ذلك بقوله: {وأنتم لا تشعرون} أي ليس عندكم شعور بإتيانه لا في حال إتيانه ولا قبله بوجه من الوجوه؛ لفرط غفلتكم، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطنة عليه من ضده...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أحسن ما أُنزِلَ} هو القرآن وهو معنى قوله: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} [الزمر: 18]. والحظ للمشركين في هذه الآية لأن المسلمين قد اتّبعوا القرآن كما قال تعالى: {فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه} [الزمر: 17، 18].
و {أحْسَنَ} اسم تفضيل مستعمل في معنى كامل الحسن، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض لأن جميع ما في القرآن حسن فهو من باب قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [يوسف: 33].
وإضافة {أحْسَنَ} إلى {مَا أُنْزِل} من إضافة الصفة إلى الموصوف.
والعذاب المذكور في هذه هو العذاب المذكور قبلُ بنوعيه وكله بغتة إذ لا يتقدمه إشعار، فعذاب الدنيا يحلّ بغتة وعذاب الآخرة كذلك لأنه تظهر بوارقه عند البعث وقد أتاهم عذاب السيف يوم بدر ويأتيهم عذاب الآخرة يوم البعث.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم»، تتحدث الآية عن المرحلة الثّالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون). وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث: الخطوة الأُولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى الله تعالى. الخطوة الثّانية: الإيمان بالله والاستسلام له. الخطوة الثّالثة: العمل الصالح...