نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱتَّبِعُوٓاْ أَحۡسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ بَغۡتَةٗ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (55)

ولما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه ، أمر بما هو أعلى من ذلك ، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال : { واتبعوا } أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع { أحسن ما أنزل } واصلاً { إليكم } على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه ، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك ، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون " كأنك تراه " الذي هو أعلى من استحضار " إنه يراك " الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك .

ولما كان هذا شديداً على النفس ، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار : { من ربكم } أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم . ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب ، قال منبهاً أيضاً على رفقه بإثبات الجار : { من قبل أن يأتيكم } أي على ما بكم من العجز عن الدفاع { العذاب } أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة .

ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال : { بغتة } ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته ، نفى ذلك بقوله : { وأنتم لا تشعرون * } أي ليس عندكم شعور بإتيانه لا في حال إتيانه ولا قبله بوجه من الوجوه لفرط غفلتكم ، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطنة عليه من ضده .