وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم اللّه بقوله وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ أي : يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار ، التي علمها أشرف العلوم .
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب ، وأفراح الأرواح ، وصلاح الدنيا والآخرة .
ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات ، إقامة الصلاة ، ظاهرا وباطنا ، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها ، وشرفها ، وكونها ميزان الإيمان ، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات .
ولما كان عملهم كله إصلاحا ، قال تعالى : إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم ، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم .
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد ، وبالمنافع لا بالمضار ، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين ، فكل من كان أصلح ، كان أقرب إلى اتباعهم .
ثم أثنى الله - تعالى - على من تمسك بكتابه ، فأحل حلاله وحرم حرامه ، ولم يتقول على الله الكذب فقال تعالى : { والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } والمراد بالكتاب التوراة أو القرآن أو جنس الكتب السماوية عموما .
والمعنى : والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الذي أنزله الله ويعتصمون بحبله في جميع شئونهم إنا لا نضيع أجرهم لأنهم قد أصلحوا دينهم ودنياهم والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
وخص الصلاة بالذكر مع دخولها فيما قبلها إظهارا لمزيتها لكونها عماد الدين وناهية عن الفحشاء والمنكر .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد وبختا اليهود لافترائهم على الله الكذب وردتا عليهم في دعواهم أن ذنوبهم مغفورة لهم مع تعمدهم أكل أموال الناس بالباطل ، وبينتا لهم طريق الفلاح لكى يسيروا عليها ، إن كانوا ممن ينتفع بالذكر ، ويعتبر بالمثلات . ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل عن بنى إسرائيل بتذكيرهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم ، وبأمرهم بالإيمان والعمل الصالح فقالت : { والذين يُمَسِّكُونَ . . . } .
( والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة ، إنا لا نضيع أجر المصلحين ) .
وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا مافيه ؛ ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه ، ولا يعملون به ، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ؛ ولا في سلوكهم وحياتهم . . غير أن الآية تبقى - من وراء ذلك التعريض - مطلقة ، تعطي مدلولها كاملاً ، لكل جيل ولكل حالة .
إن الصيغة اللفظية : ( يمسكون ) . . تصور مدلولاً يكاد يحس ويرى . . إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة . . الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه . . في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت . . فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر . . إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع ! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار ! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون " الواقع " هو الحكم في شريعة الله ! فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله !
والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة ؛ وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة . . والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً . إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة ، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس . فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس ، ولا تصلح بسواه . . والإشارة إلى الإصلاح في الآية :
( إنا لا نضيع أجر المصلحين ) . .
يشير إلى هذه الحقيقة . . حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً ، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين .
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني . . ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس ؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص ، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب ؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب ، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله . .
إنه منهج متكامل . يقيم الحكم على أساس الكتاب ؛ ويقيم القلب على أساس العبادة . . ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب ؛ فتصلح القلوب ، وتصلح الحياة .
إنه منهج الله ، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر ، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } . .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «يُمْسِكُونَ » بتخفيف الميم وتسكينها ، من أمسك يمسك . وقرأه آخرون : يُمَسّكُونَ بفتح الميم وتشديد السين ، من مسّك يمسّك . ويعني بذلك : والذين يعملون بما في كتاب الله ، وأقاموا الصلاة بحدودها ، ولم يضيعوا أوقاتها إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ يقول تعالى ذكره : فمن فعل ذلك من خلقي ، فإني لا أضيع أجر عمله الصالح . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَالّذِينَ يُمَسّكُونَ بالكِتابِ قال : كتاب الله الذي جاء به موسى صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله : والّذِينَ يُمَسّكُونَ بالكِتابِ من يهود أو نصارى إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ .
وقوله : { والذين } عطف على قوله : { للذين يتقون } وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وأبو عمرو والناس : «يَمَسّكون » بفتح الميم وشد السين وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو العالية وعاصم وحده في رواية أبي بكر .
«يمْسِكون » بسكون الميم وتخفيف السين ، وكلهم خفف { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } إلا أبا عمرو فإنه قرأ : «ولا تمَسّكوا » بفتح الميم وشد السين ، وقرأ الأعمش «والذين استمسكوا » وفي حرف أبيّ «والذين مسكوا » يقال أمسك ومسك وهما لغتان بمعنى واحد ، قال كعب بن زهير : [ البسيط ]
وقعت جملة : { والذين يمسِكون بالكتاب } إلى آخرها عقب التي قبلها : لأن مضمونها مقابلَ حكمَ التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدني قد فرطوا في ميثاق الكتاب ، ولم يكونوا من المتقين ، فعُقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم ، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل ، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون . فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة ، لأن الصلاة شعار دين الإسلام ، حتى سمي أهل الإسلام أهلَ القبلة ، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية ، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل ، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بُعث : مثل عبد الله بن سَلاَم .
ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب : المسلمون ، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيراً لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم .
وجملة : { إنا لا نضيع أجر المصلحين } خبر عن الذين يمسكون ، والمصلحون هم ، والتقدير : إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون ، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... والذين يعملون بما في كتاب الله، وأقاموا الصلاة بحدودها، ولم يضيعوا أوقاتها، "إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِينَ "يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من خلقي، فإني لا أضيع أجر عمله الصالح...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ يُمْسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}. يمسكون بالكتاب إيماناً، وأقاموا الصلاة إحساناً، فبالإيمان وجدوا الأَمَان، وبالإحسان وجدوا الرضوان؛ فالأَمانُ مُعَجَّل والرضوان مؤجل. ويقال {يمسكون بالكتاب} سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة في المآل والمناجاة في الحال. ويقال أفرد الصلاة ها هنا بالذكر عن جملة الطاعات ليُعْلمَ أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات. قوله جلّ ذكره: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ}. مَنْ أَمَّلَ سببَ إنعامنا لم تَخْسِرْ له صفقة، ولم تخْفِق له في الرجاء رفقة...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والذين يمسكون بالكتاب} يؤمنون به ويحكمون بما فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة. ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهار لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان...
أما قوله تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب}...قرأ أبو بكر عن عاصم {يمْسكون} مخففة والباقون بالتشديد... قال الواحدي: والتشديد أقوى، لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي: اعتصموا به واقتدوا بأوامره، وتركوا زواجره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والذين يمسكون} أي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الاستمرار، وهو إشارة إلى أن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لا سيما عند ظهور الفساد {بالكتاب} أي فلا يقولون على الله إلا الحق {وأقاموا الصلاة} وخصها إشارة إلى أن الأولين تركوها كما صرح به في آية مريم، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين {إنا لا نضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المصلحين}
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الجشمي: تدل الآية على وعيد المعرض عن الكتاب، ووعد من تمسّك به، تنبيها لنا وتحذيرا عن سلوك طريقتهم. وتدل على أن الاستغفار باللسان، وتمني المغفرة لا ينفع حتى يكون معهما التوبة والعمل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي والذين يستمسكون بعروة الكتاب الوثقى ويعتصمون بحبله في جميع أحوالهم وأوقاتهم، وأقاموا الصلاة التي هي عماد الدين في أوقاتها {إنا لا نضيع أجر المصلحين} إنا لا نضيع أجرهم لأنهم هم المصلحون. والله لا يضيع أجر المصلحين، فهو خبر قرن بالدليل، ومثله قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} [الكهف: 30].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم اللّه بقوله "وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ "أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم. ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم. وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن اللّه بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين). وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه؛ ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم؛ ولا في سلوكهم وحياتهم.. غير أن الآية تبقى -من وراء ذلك التعريض- مطلقة، تعطي مدلولها كاملاً، لكل جيل ولكل حالة. إن الصيغة اللفظية: (يمسكون).. تصور مدلولاً يكاد يحس ويرى.. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة.. الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه.. في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت.. فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر.. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون "الواقع "هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله! والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة -أي شعائر العبادة- هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقروناً إلى الشعائر يعني مدلولاً معيناً. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية: (إنا لا نضيع أجر المصلحين).. يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين. وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني.. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس؛ وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب؛ وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.. إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب؛ ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة. إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجاً آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقعت جملة: {والذين يمسِكون بالكتاب} إلى آخرها عقب التي قبلها: لأن مضمونها مقابلَ حكمَ التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدنى قد فرطوا في ميثاق الكتاب، ولم يكونوا من المتقين، فعُقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون. فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة، لأن الصلاة شعار دين الإسلام، حتى سمي أهل الإسلام أهلَ القبلة، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بُعث: مثل عبد الله بن سَلاَم.
ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب: المسلمون، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيراً لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم.
وجملة: {إنا لا نضيع أجر المصلحين} خبر عن الذين يمسكون، والمصلحون هم، والتقدير: إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
.ومعنى التمسك به، الإذعان لأحكامه، والدعوة لهذا الإذعان، والعمل به مخلصين غير متحايلين لتركه، وإلقاء المعاذير عند ترك العمل به. والتمسك به كما ذكرنا يتضمن معنى الدعوة إلى الاستمساك، وبالأولى يستمسك الممسك فيعتقد، ويؤمن ويدعو. وقد ذكر أعظم أعمال الطاعة بعد التمسك بالكتاب، فقال: {وأقاموا الصلاة} أي أتوا بها مقومة على وجهها الأكمل، وتكون الصلاة على الوجهة الأكمل إذا كان ذكر الله، واستشعار خشيته في كل ركن من أركانها، واختصها الله تعالى بالذكر؛ لأنها ركن الدين، ولبه، ولا دين من غير صلاة كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنها سبيل للابتعاد عن المنكرات التي كان بنو إسرائيل يفعلونها، وقد قال تعالى في القرآن كتابه الخالد الباقي إلى يوم القيامة: {...إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... وفي التعبير بقوله: {المصلحين} إشارة إلى أن تمسيكهم للكتاب يتجاوز الإمساك إلى الدعوة إليه كما أشرنا. (45)} (العنكبوت).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يُمَسِّكُونَ} بالشيء: يعملون به، ويعتصمون. وهم الذين يحوّلون مفاهيمه إلى عقيدةٍ وحركة حياةٍ، ويقيمون الصلاة كتعبيرٍ عن عبوديتهم لله وخضوعهم له، فإنّ الله سيجزيهم أفضل جزاء المحسنين المصلحين في الدنيا والآخرة. {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} الذين انطلقوا في الحياة من موقع الصلاح والإصلاح في حياة أنفسهم وفي حياة الآخرين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ في التعبير ب «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص، ويسعى في حفظها وحراستها. إنّ التمسك بالكتاب الإِلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقاً من القرآن أو التوراة أو الإِنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم. وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإِلهية، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضراً وناظراً لجميع أعماله وبرامجه، ومراقباً لجميع أفعاله وأقواله، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أُخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.