قوله : " والَّذينَ يُمَسِّكُون " : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } وفي الرَّابط حينئذ أقوال :
أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين ، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ " ألْ " قائمةٌ مقام الضمير ، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ ؛ كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مَأواهُ ، وقوله { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] أي : أبوابُها ، وقوله : { في أَدْنَى الأرض } [ الروم : 3 ] أي : أرضهم ، إلى غير ذلك .
والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه ، نحو : زيد قام أبو عبد الله ، وهو رأي الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول ، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ .
الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في " المُصْلحينَ " قاله أبُو البقاء .
قال : " وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير " .
قال شهاب الدين{[16967]} : العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة ؛ وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ *** سَبِيلٌ ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا{[16968]}
ومنه : نعم الرجُل زيدٌ ، على أحد الأوجه :
والوجه الثاني - من وجهي الخبر - : أنَّهُ محذوف ، تقديره : والذين يمسكون مأجورون ، أو مثابُونَ ونحوه .
وقوله تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } جملة اعتراضية ، قاله الحوفيُّ . ولا ضرورة تدعو إليه .
الثاني من وجْهَيْ " الذينَ يُمَسِّكُون " : أنَّه محل جر نسقاً على : " الَّذين يَتَّقُونَ " أي : والدّار الآخرةُ خير للمتقين ، وللمتمسكين ، قاله الزمخشريُّ .
إلاَّ أنه قال : ويكون قوله : { إنَّا لا نُضيعُ } اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفا .
وقرأ العامَّةُ " يُمَسِّكُونَ " بالتشديد مِنْ " مَسَّك " بمعنى " تَمَسَّكَ " حكاه أهلُ التصريف أي : إنَّ : " فَعَّلَ " بمعنى " تفَعَّل " ، وعلى هذا فالباءُ للآلة ، كهي في " تَمَسَّكْتُ بالحبل " .
يقال : مَسَّكْتُ بالشَّيء ، وتَمَسَّكْتُ ، واسْتَمْسَكْتُ به ، وامتسَكْتُ به .
وقرأ أبو بكر عن عاصم{[16969]} ، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية " يُمْسِكُونَ " بسكون الميم وتخفيف السين من " أمْسَكَ " وهما لغتان يقال : مَسَكْتُ ، وأمْسَكْتُ .
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله : [ البسيط ]
ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ *** إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ{[16970]}
قال تعالى : { وَيُمْسِكُ السماء } [ الحج : 65 ] فعلى هذا مفعوله محذوف ، تقديره : يُمسِكون دينهم وأعمالهم بالكتاب ، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي : مصاحبين للكتابِ ، أي : لأوامره ونواهيه .
وحجة عاصم قوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 229 ] ، وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [ الأحزاب : 37 ] ، وقوله : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] .
قال الواحديُّ : والتشديدُ أقوى ؛ لأنَّ التشديد للكثرة ، وههنا أريد به الكثرة ؛ ولأنَّهُ يقال : أمسكته ، وقَلَّمَا يقال : أمسكت به .
وقرأ عبد الله{[16971]} والأعمش : " اسْتَمْسَكُوا " ، وأبي{[16972]} : " تَمَسَّكُوا " على الماضي ، وهو جيّد لقوله تعالى : { وَأَقَامُواْ الصلاة } إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلاَّ في المعنى .
أراد والذين يعملون بما في الكتاب .
قال مجاهدٌ : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى ، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلةً{[16973]} .
وقال عطاء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } أي : لا نضيع{[16974]} أجرهم ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] .
فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر ؟ فالجوابُ : أفردها لعلو مرتبتها ، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.