الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ} (170)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ [ أوجه ] ، أحدُهما : الجملة من قوله : " إنَّا لا نُضيع أَجْرَ المُصْلحين " وفي الرابط حينئذ أقوال ، أحدها : أنه ضميرٌ محذوفٌ لفَهْم المعنى . والتقدير : المُصْلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين وقواعد الكوفيين تقتضي أن أل قائمةٌ مَقام الضمير تقديره : أَجْر مصلحيهم كقوله : { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 41 ] ، أي : مَأْواه ، وقوله :

{ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } [ ص : 50 ] ، أي أبوابها ، وقوله : { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } [ الروم : 3 ] ، أي أرضهم ، إلى غير ذلك . والثاني : أن الرابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه نحو : زيد قام أبو عبد الله وهو رأيُ الأخفش ، وهذا كما يُجيزه في الموصول نحو : أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدريّ ، والحجَّاج الذي رأيت ابنُ يوسف ، وقد قدَّمْت من ذلك شواهد كثيرة . الثالث : أن الرابطَ هو العمومُ في " المُصْلحين " قاله أبو البقاء ، قال : " وإن شِئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنياً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير " . قلت : العمومُ رابطٌ من الروابط الخمسة وعليه قولُه :

ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ *** سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا

ومنه " نِعْم الرجل زيد " على أحدِ الأوجه .

والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره : والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه ، وقوله : " إنَّا لا نضيع " جملةٌ اعتراضية ، قاله الحوفي ، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه .

الثاني من وجهي " والذين يُمْسكون " : أنه في محل جر نسقاً على " للذين يتقون " ، أي : ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين ، قاله الزمخشري ، إلا أنه قال : " ويكون قوله " إنَّا لا نُضيع اعتراضاً " . وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين/ شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ : ويكون على هذا مستأنفاً .

وقرأ العامَّة : " يُمَسِّكون " بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك ، حكاه أهلُ التصريف ، أي : إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل ، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في : تمسَّكْتُ بالحبل . وقرأ أبو بكر عن عاصم ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية : " يُمْسِكون " بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك ، وهما لغتان يقال : مَسَكْت وأَمْسكت ، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله :

ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ *** إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ

ولكن أمسك متعدّ . قال تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ } فعلى هذا مفعولُه محذوفٌ تقديرُه : " يُمْسِكون دينَهم وأعمالهم بالكتاب " ، فالباءُ يجوز أن تكونَ للحال وأن تكونَ للآلة ، أي : مصاحبين للكتاب ، أي لأوامره ونواهيه . وقرأ الأعمش وهي قراءة عبد الله " استمسكوا " . وأُبَيّ " تَمَسَّكوا " ماضيَيْن .