{ 14 } { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا } أي : في حال الاجتماع { إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } أي : لا يثبتون لقتالكم{[1045]} ولا يعزمون عليه ، إلا إذا كانوا متحصنين في القرى ، أو من وراء الجدر والأسوار .
فإنهم إذ ذاك ربما يحصل منهم امتناع ، اعتمادا [ على ] حصونهم وجدرهم ، لا شجاعة بأنفسهم ، وهذا من أعظم الذم ، { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : بأسهم فيما بينهم شديد ، لا آفة في أبدانهم ولا في قوتهم ، وإنما الآفة في ضعف إيمانهم وعدم اجتماع كلمتهم ، ولهذا قال : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا } حين تراهم مجتمعين ومتظاهرين .
{ و } لكن { قلوبهم شَتَّى } أي : متباغضة متفرقة متشتتة .
{ ذَلِكَ } الذي أوجب لهم اتصافهم بما ذكر { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } أي : لا عقل عندهم ، ولا لب ، فإنهم لو كانت لهم عقول ، لآثروا الفاضل على المفضول ، ولما رضوا لأنفسهم بأبخس الخطتين ، ولكانت كلمتهم مجتمعة ، وقلوبهم مؤتلفة ، فبذلك يتناصرون ويتعاضدون ، ويتعاونون على مصالحهم ومنافعهم الدينية والدنيوية .
مثل هؤلاء المخذولين من أهل الكتاب ، الذين انتصر الله لرسوله منهم ، وأذاقهم الخزي في الحياة الدنيا .
ثم يقرر - سبحانه - حقيقة أخرى ، أيدتها التجارب والمشاهد الواقعية ، فقال - تعالى - : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى . . . } .
والآية الكريمة بدل اشتمال من التى قبلها ، لأن شدة الخوف من المؤمنين جعلت اليهود وحلفاءهم ، لا يقاتلون المسلمين ، إلا من رواء الخنادق والحصون .
والجدر : جمع جدار ، وهو بناء مرتفع يحتمى به من يقاتل من خلفه . و { جَمِيعاً } بمعنى مجتمعين كلهم . . ، أي : أن هؤلاء اليهود وحلفاءهم من المنافقين ، لا يقاتلونكم مجتمعين كلهم فى موطن من المواطن إلا فى قرى محصنة بالخنادق وغيرها ، أو يقاتلونكم من وراء الجدران التى يتسترون بها ، لأنهم يعجزون عن مبارزتكم ، وعن مواجهتكم وجها لوجه ، لفرط رهبتهم منكم . .
قال ابن كثير : يعنى أنهم فى جبنهم وهلعهم ، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام ، بالمبارزة والمقاتلة ، بل إما فى حصون ، أو من وراء جدر محاصرين ، فيقاتلونكم للدفع عنهم ضرورة .
وقوله - تعالى - : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } جملة مستأنفة ، كأن قائلا قال : ولماذا لا يقاتلون المؤمنين إلا على هذه الصورة ؟ فكان الجواب : بأسهم بينهم شديد . أى : عداوتهم فيما بينهم عداوة شديدة ، بحيث لا يتفقون على رأى ، وقوتهم يستعملونها فيما بينهم استعمالا واسعا ، فإذا ما التقوا بكم تحولت هذه القوة إلى جبن وهلع .
قال صاحب الكشاف : يعنى أن البأس الشديد الذى يوصفون به ، إنما هو فيما بينهم إذا اقتتلوا ، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة ، لأن الشجاع يجبن والعزيز يذل ، عند محاربة الله ورسوله .
وقوله - تعالى - : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } استئناف آخر للإجابة عما يقال : من أنه كيف تكون عداوتهم فيما بينهم شديدة ، ونحن نراهم متفقين ؟ .
فكان الجواب : ليس الأمر كما يظهر من حالهم من أن بينهم تضامنا وترابطا . . . بل الحق أنهم متدابرون مختلفون متباغضون . . . وإن كانت ظواهرهم تدل على خلاف ذلك .
أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم مؤتلفين . . . والحال أن قلوبهم متفرقة ، ومنازعهم مختلفة وبواطنه تباين ظواهرهم . . . وما دام الأمر كذلك فلا تبالوا بهم - أيها المؤمنون - ، بل أغلظوا عليهم ، وجاهدوهم بكل قوة وجسارة .
واسم الإشارة فى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره ، من شدة عداوتهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم .
أى : ذلك الذى ذكرناه لكم من شدة بأسهم فيما بينهم ، ومن مخالفة بواطنهم لظواهرهم ، سببه أنهم قوم لا يعقلون الحق والهدى والرشاد . . . وإنما هم ينساقون وراء أهوائهم بدافع من الأحقاد والمطامع والشهوات ، بدون إدراك لعواقب الأمور ، أو للفهم الصحيح . . .
( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر . بأسهم بينهم شديد . تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى . ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) .
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في " تشخيص " حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان . بشكل واضح للعيان . ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة . فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين . فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان . حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء . وسبحان العليم الخبير !
وتبقى الملامح النفسية الأخرى ( بأسهم بينهم شديد ) . . ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى )على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم ، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان ، والجنس والوطن والعشيرة . . ( ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) . .
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم ، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض ، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد . ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ؛ إنما هو مظهر خارجي خادع . وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع . فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور ، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد ، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء ، وتصادم الاتجاهات . وما صدق المؤمنون مرة ، وتجمعت قلوبهم على الله حقا إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال . وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار ، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة !
إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب . . من المسلمين . . عندما تتفرق قلوب المسلمين ، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة . فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز ، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب ( بأسهم بينهم شديد ) . . ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) . .
والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين ، ليهون فيها من شأن أعدائهم ؛ ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم . فهو إيحاء قائم على حقيقة ؛ وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت . ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله ، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد ، فلم تقف لهم قوة في الحياة .
والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم . فهذا نصف المعركة . والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع ، وفي سياق التعقيب عليه ، وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل ، شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه ، ويتدبره كل من جاء بعدهم ، وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة !
ثم قال :{ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ }{[28599]} يعني :أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة{[28600]} بل إما في حصون أو من وراء جدر{[28601]} محاصرين ، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة .
ثم قال { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي : عداوتهم [ فيما ] {[28602]} بينهم شديدة ، كما قال : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] ؛ ولهذا قال : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } أي : تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ، وهم مختلفون غاية الاختلاف .
قال : إبراهيم النخعي : يعني : أهل الكتاب والمنافقين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } .
وقوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ } يقول جلّ ثناؤه : لا يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون ، لا يبرزون لكم بالبراز ، { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } يقول : أو من خلف حيطان .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والمدينة { أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر } على الجماع بمعنى الحيطان . وقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ » على التوحيد بمعنى الحائط .
والصواب من القول عندي في ذلك أنهما قراءاتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : { بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ }يقول جلّ ثناؤه : عداوة بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضا شديدة تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا يعني المنافقين وأهل الكتاب ، يقول : تظنهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم ، { وَقُلُوبُهُمْ شَتّى } يقول : وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا .
وقوله : { ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }يقول جلّ ثناؤه : هذا الذي وصفت لكم من أمر هؤلاء اليهود والمنافقين ، وذلك تشتيت أهوائهم ، ومعاداة بعضهم بعضا من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } قال : تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم ، مختلفة أهواؤهم ، مختلفة أعمالهم ، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المنافقون يخالف دينهم دين النضير .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى قال : هم المنافقون وأهل الكتاب .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، مثل ذلك .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى }قال : المشركون وأهل الكتاب .
وذُكر أنها في قراءة عبد الله : { وَقُلُوبُهُمْ أشَتّ } بمعنى : أشدّ تشتتا : أي أشدّ اختلافا .
{ لا يقاتلونكم } اليهود والمنافقون { جميعا }مجتمعين متفقين { إلا في قرى محصنة } بالدروب والخنادق { أو من وراء جدر }لفرط رهبتهم وقرأ ابن كثير وأبو عمر جدار وأمال أبو عمرو فتحة الدال ، { بأسهم بينهم شديد } أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لقذف الله الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله ، { تحسبهم جميعا }مجتمعين متفقين { وقلوبهم شتى }متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم .
الضمير في قوله تعالى : { لا يقاتلونكم } لبني النضير وجميع اليهود ، وهذا قول جماعة المفسرين ، ويحتمل أن يريد بذلك : اليهود والمنافقين ، لأن دخول المنافقين في قوله تعالى : { بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } متمكن بين . ومعنى الآية : { لا يقاتلونكم } في جيش بفحص{[11031]} ، والقرى المدن . قال الفراء هذا جمع شاذ . قال الزجاج : ما في القرآن فليس بشاذ وهو مثل ضيعة وضيع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وكثير من المكيين «جدار » على معنى الجنس . وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير : «جَدْر » بفتح الجيم وسكون الدال ومعناه أصل بنيان كالسور ونحوه ، وقرأ الباقون من القراء «جُدُر » بضم الجيم والدال وهو جمع جدار ، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوة «جُدْر » بضم الجيم وسكون الدال وهو تخفيف في جمع جدار ، ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المضايقة{[11032]} .
وقوله تعالى : { بأسهم بينهم شديد } أي في عائلتهم وأحبتهم ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «تحسبهم جميعاً وفي قلوبهم أشتات » ، وهذه حال الجماعات المتخاذلة وهي المغلوبة أبداً فيما يحاول ، واللفظة مأخوذة من الشتات وهو التفرق ونحوه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {تحسبهم} يا محمد {جميعا} المنافقين واليهود، {وقلوبهم شتى} يعني متفرقة مختلفة.
{ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} عن الله فيوحدونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعا إلاّ فِي قُرًى مُحَصّنَةٍ}: لا يقاتلكم هؤلاء اليهود بني النضير مجتمعين إلا في قرى محصنة بالحصون، لا يبرزون لكم بالبراز.
{أوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}: أو من خلف حيطان.
{بأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ}: عداوة بعض هؤلاء الكفار من اليهود بعضا شديدة،
{تحْسَبُهُمْ جَمِيعا} يعني المنافقين وأهل الكتاب، يقول: تظنهم مؤتلفين مجتمعة كلمتهم، {وَقُلُوبُهُمْ شَتّى}: وقلوبهم مختلفة لمعاداة بعضهم بعضا.
{ذَلِكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} يقول جلّ ثناؤه: تشتيت أهوائهم، ومعاداة بعضهم بعضا من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظّ لهم مما فيه عليهم البخس والنقص.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وقلوبهم شتى} يعني مختلفة متفرقة، وفي اختلاف قلوبهم وجهان:
أحدهما: لأنهم على باطل، والباطل مختلف، والحق متفق.
الثاني: أنهم على نفاق، والنفاق اختلاف.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اجتماعُ النفوس -مع تنافر القلوب واختلافها- أصلُ كلَّ فساد، وموجِبُ كُلِّ تخاذُل، ومقتضى تجاسُرِ العدوِّ. واتفاقُ القلوبِ، والاشتراكُ في الهِمَّةِ، والتساوي في القَصْدِ يُوجِبُ كُلَّ ظَفَرٍ وكلَّ سعادة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} لقذف الله الرعب في قلوبهم، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة؛ لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله.
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} مجتمعين ذوي ألفة واتحاد.
{وَقُلُوبُهُمْ شتى} يعني أنّ بينهم إحنا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم.
قال مجاهد: المعنى أنهم إذا اجتمعوا يقولون: لنفعلن كذا وكذا، فهم يهددون المؤمنين ببأس شديد من وراء الحيطان والحصون، ثم يحترزون عن الخروج للقتال، فبأسهم فيما بينهم شديد، لا فيما بينهم وبين المؤمنين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وقلوبهم شتى}: أي وأهواؤهم متفرقة، وكذا حال المخذولين، لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد، وموجب ذلك الشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}: فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلا دين لهم يجمعهم لعلمهم أنهم على الباطل فهم أسرى الأهوية، والأهوية في غاية الاختلاف، فالعقل مدار الاجتماع كما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الهوى مدار الاختلاف.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} استئنافٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذكرَ من رهبتِهِم ليسَ لضعفِهِم وجبنِهِم في أنفسِهِم فإنَّ بأسَهُم بالنسبة إلى أقرانِهِم شديدٌ وإنما ضعفُهُم وجبنُهُم بالنسبةِ إليكُم بما قذفَ الله تعالَى قلوبَهُم من الرعبِ.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي هذا عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات، وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرقوهم شَذرَ مَذرَ، وجعلوهم عبيدا أذلاء في بلادهم والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النفاية وفتات الموائد. ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتي بالفتح أو نصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في "تشخيص " حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان... وسبحان العليم الخبير! والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد. ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع. فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل المعسكر الواحد، قائم على اختلاف المصالح وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات.
وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقا، إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات وهذا التضارب وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال. وما صبر المؤمنون وثبتوا، إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة! إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب.. من المسلمين.. عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة. فأما في غير هذه الحالة فالمنافقون أضعف وأعجز، وهم والذين كفروا من أهل الكتاب متفرقو الأهواء والمصالح والقلوب.
(بأسهم بينهم شديد).. (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى).. والقرآن يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين، ليهون فيها من شأن أعدائهم، ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم. فهو إيحاء قائم على حقيقة؛ وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت. ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد، هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله، وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد، فلم تقف لهم قوة في الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: لا يهاجمونكم، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم، ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة، أو يقاتلونكم من وراء جُدر، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ: ما حورب قوم في عُقر دارهم إلا ذلُّوا، كما قال عَلِيّ رضي الله عنه: وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء..
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يعقلون}... وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم.
وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر، ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر؛ يرون رأياً متماثلاً في أصول مصالحهم المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرِّق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإِحن والعداوات.
والقلوب: العقول والأفكار، فالمراد: أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.
وأوثر هنا {لا يعقلون}. وفي الآية التي قبلها {لا يفقهون} [الحشر: 13] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوَهن والفتّ في ساعد الأمة معرفة « مشهورة» بين العقلاء.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يستعرض دليلا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه: {لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر}.
ثمّ يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلّة في عددهم وعدّتهم، أو عجز في رجالهم، بل إنّ (بأسهم بينهم شديد). وهذا الأمر تقريباً يمثّل أصلا كليّاً في مورد اقتتال الفئات غير المؤمنة فيما بينهم، وكذلك محاربتهم للمؤمنين. ونشاهد مصاديق هذا المعنى بصورة متكرّرة أيضاً في التأريخ المعاصر، حيث نلحظ عند اشتباك مجموعتين غير مؤمنتين مع بعضهما شدّة الفتك وقسوة الانتقام وشراسة المواجهة بينهما بصورة لا تدعو للشكّ في قوّة كلّ منهما... ولكن لو تغيّرت المعادلة، وأصبحت المواجهة بين مجموعة غير مؤمنة بالله وأخرى مؤمنة مستعدّة للشهادة في سبيل الله، عند ذلك نرى أعداء الحقّ يلوذون إلى القلاع المحكمة ويخفون أنفسهم في المواضع ووراء المتاريس وخلف الأسلحة، ويسيطر عليهم الخوف ويهيمن عليهم الرعب ويملأ كلّ وجودهم، والحقيقة أنّ المسلمين إذا جعلوا إيمانهم وقيمهم الإسلامية هي الأساس فإنّهم منتصرون ومتفوقون على الأعداء بلا ريب. ولهذا السبب واستمرارا لما ورد في نفس الآية نستعرض سبباً آخر من أسباب اندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون). إنّ القرآن الكريم في تحليل المسائل بشكل دقيق جدّاً وملهم يؤكّد على أنّ التفرقة والنفاق الداخلي وليدة الجهل وعدم المعرفة، لأنّ الجهل عامل الشرك، والشرك عامل للتفرقة، والتفرقة تسبّب الهزيمة. وبالعكس فإنّ «العلم» عامل لوحدة العقيدة والعمل والانسجام والاتفاق، وهذه الصفات بحدّ ذاتها مصدر للانتصار. وهكذا فإنّ الانسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألاّ تخدعنا أبداً، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها واضح وهو انهماك كلّ منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن ذلك العهود والاتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد وأصول ربّانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية، وإذا أصيب المسلمون بانتكاسة في أعمالهم فإنّ ذلك دليل على ابتعادهم عن حقيقة الإيمان وما لم يعودوا إلى الإيمان فإنّ وضعهم لن يتحسّن.