ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ . . . } .
والرتع والرتوع هو الاتساع في الملاذ والتنعم في العيش ، يقال : رتع الإِنسان في النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت ، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة ، كالتسابق عن طريق العدو ، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة .
أى : أرسله معنا غدا ليتسع في أكل الفواكه ونحوها وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجرى والتسابق معنا .
{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كل الحفظ من أن يصيبه مكروه ، أو يمسه سوء .
وقد أكدو هذه الجملة والتى قبلها وهى قوله { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } بألوان من المؤكدات ، لكى يستطيعوا الحصول على مقصودهم في اصطحاب يوسف معهم .
وهو أسلوب يبدوا فيه التحايل الشديد على أبيهم ، لإِقناعة بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : { يَرْتَعِ ويَلْعَبْ } ، بكسر العين من يرتع وبالياء في يرتع ويلعب ، على معنى : «يفتعل » ، من الرعي : ارتعيت ، فأنا أرتعي . كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى : أرسله معنا غدا يرتع الإبل ، ويلعب . { وَإنّا لَهُ لحَافِظُونَ } .
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، بالياء في الحرفين جميعا وتسكين العين ، من قولهم : رتع فلان في ماله : إذا لهى فيه ونعم وأنفقه في شهواته ، ومن ذلك قولهم في مثل من الأمثال : «القَيْدُ والرّتَعَة » ، ومنه قول القطامي :
أكُفْرا بَعْدَ رَدّ المَوْتِ عَنّي *** وبعدَ عَطائِكَ المِئَةَ الرّتاعَا
وقرأ بعض أهل البصرة : { نَرْتَعْ } ، بالنون ، { وَنَلْعَب } ، بالنون فيهما جميعا ، وسكون العين من { نرتع } .
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، قال : كان أبو عمرو يقرأ : { نَرْتَع وَنَلْعَبْ } ، بالنون ، قال : فقلت لأبي عمرو : كيف يقولون : " نلعب " ، وهم أنبياء ؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء .
وأولى القراءة في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه في الحرفين كليهما بالياء وبجزم العين في : «يرتعْ » . لأن القوم إنما سألوا إباهم إرسال يوسف معهم ، وخدعوه بالخبر عن مسألتهم إياه ذلك عما ليوسف في إرساله معهم من الفرح والسرور والنشاط بخروجه إلى الصحراء وفسحتها ولعبه هنالك ، لا بالخبر عن أنفسهم . وبذلك أيضا جاء تأويل أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، يقول : يسع ، وينشط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يلهو ، وينشط ، ويسعى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلهو .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، بنحوه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يسعى ، ويلهو .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يتلهى ، ويلعب .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يتلهى ، ويلعب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلعب .
قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } : يلهو .
قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن شيبان ، عن قتادة : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : ينشط ، ويلعب .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا نعيم بن ضمضم العامري ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، في قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يسعى ، وينشط .
وكأن الذين يقرءون ذلك : { يَرْتَعِ وَيَلْعَبْ } ، بكسر العين من يرتعِ ، يتأوّلونه على الوجه الذي :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { أرْسِلْهُ مَعَنا غَدا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال : يرعى غنمه ، وينظر ، ويعقل ، فيعرف ما يعرف الرجل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { نَرْتَعِ } : يحفظ بعضنا بعضا ، نتكالأ ، نتحارس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { نَرْتَعِ } ، قال : يحفظ بعضنا بعضا ، نتكالأ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن وَرْقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، بنحوه .
فتأويل الكلام : أرسله معنا غدا نلهو ، ونلعب ، وننعم ، وننشط في الصحراء ، ونحن حافظوه من أن يناله شيء يكرهه ، أو يؤذيه .
{ أرسله معنا غدا } إلى الصحراء . { يرتَع } نتسع في أكل الفواكه ونحوهما من الرتعة وهي الخصب . { ويلعب } بالاستباق والانتضال . وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من ارتعى يرتعي ونافع بالكسر والياء فيه وفي { يلعب } . وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى يوسف . وقرئ { يرتع } من أرتع ماشيته و{ يرتع } بكسر العين و{ يلعب } بالرفع على الابتداء . { وإنا له لحافظون } من أن يناله مكروه .