وثَمَّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق ، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له ، ويأخذ أجرة على دعوته . فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي : على اتباعكم للحق { فَهُوَ لَكُمْ } أي : فأشهدكم أن ذلك الأجر - على التقدير - أنه لكم ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : محيط علمه بما أدعو إليه ، فلو كنت كاذبا ، لأخذني بعقوبته ، وشهيد أيضا على أعمالكم ، سيحفظها عليكم ، ثم يجازيكم بها .
ثم أمره - سبحانه - للمرة الثانية أن يصارحهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته إياهم إلى ما يسعدهم فقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم . بعد أن دعوتهم إلى التفكير الهادئ ، المتأنى فى أمرك : إنى ما طلبت منكم أجرا على دعوتى إياكم إلى الحق والخير ، وإذا فرض وطلبت فهو مردود عليكم . لأنى لا ألتمس أجرى إلا من الله - تعالى - وحده ، وهو - سبحانه - على كل شئ شهيد ورقيب ، ولا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
قال الآلوسى قوله : قل ما سألتكم من أجرن أى : مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } والمراد نفى السؤال رأسا ، كقولك لصاحبكم إن أعطيتنى شيئا فخذه ، وأنت علم أنه لم يعطك شيئا : فما شرطية ، مفعول { سَأَلْتُكُم } وقوله { فَهُوَ لَكُمْ } الجواب - وقيل هى موصولة ، والعائد محذوف ، ومن للبيان ودخلت الفاء فى الخبر لتضمنها معنى الشرط . أى : الذى سألتكموه من الأجر فهو لكم ، وثمرته تعود إليكم .
( قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم . إن أجري إلا على الله . وهو على كل شيء شهيد ) . .
دعاهم في المرة الأولى إلى التفكر الهادى ء البريء . . ما بصاحبكم من جنة . . ويدعوهم هنا أن يفكروا ويسألوا أنفسهم عما يدعوه إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد . ما مصلحته ? ما بواعثه ? ماذا يعود عليه ? ويأمره أن يلمس منطقهم ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية :
( قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم ) !
خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم ! وهو أسلوب فيه تهكم . وفيه توجيه . وفيه تنبيه .
هو الذي كلفني . وهو الذي يأجرني . وأجره هو الذي أتطلع إليه . ومن يتطلع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هين عنده هزيل زهيد لا يستحق التفكير .
يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء . وهو عليّ شهيد . فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك المكذّبيك ، الرّادّين عليك ما أتيتهم به من عند ربك : ما أسألكم من جُعْلٍ على إنذاريكم عذاب الله ، وتخويفكم به بأسه ، ونصيحتي لكم في أمري إياكم بالإيمان بالله ، والعمل بطاعته ، فهو لكم لا حاجة لي به . وإنما معنى الكلام : قل لهم : إني لم أسألكم على ذلك جُعْلاً فتتهموني ، وتظنوا أني إنما دعوتكم إلى اتباعي لمال آخذه منكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ ما سألْتُكُمْ مِنْ أجْر : أي جُعل فَهُوَ لَكُمْ يقول : لم أسألكم على الإسلام جُعْلاً .
وقوله : إنْ أجْرِيَ إلاّ عَلى اللّهِ يقول : ما ثوابي على دعائكم إلى الإيمان بالله ، والعمل بطاعته ، وتبليغكم رسالته ، إلاّ على الله وَهُوَ عَلى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول : والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد يشهد لي به ، وعلى غير ذلك من الأشياء كلها .
هذا استقصاء لبقايا شبه التكذيب لدحضها سواء منها ما تعلقوا به من نحو قولهم : كاهن وشاعر ومجنون وما لم يدعوه ولكنه قد يخطر ببال واحد منهم أن يزعموا أنه يريد بهذه الدعوة نفعاً لنفسه يكون أجراً له على التعليم والإِرشاد .
وهم لما ادّعوا أنه ساحر أو أنه شاعر أو أنه كاهن لزم من دعواهم أنه يتعرض لجائزة الشاعر ، وحُلوان الكاهن ؛ فلما نفيت عنه تلك الخلال لم يبق لهم في الكنانة سهم طعن ، إلا أن يزعموا أنه يطلب أجراً على الإِرشاد فقيل لهم : { ما سألتكم من أجر فهو لكم } إن كان بكم ظنّ انتفاعي منكم بما دعوتكم إليه ، فما كان لي من أجر عليه فخذوه . وهذه طريقة بديعة في الكناية التهكمية عن عدم انتفاعه بما يدعوهم إليه بأن يفرض كالواقع ثم يرتب عليه الانكفاف عنه ورد ما فات منه ليفضي بذلك إلى البراءة منه ومن التعرض له ، فهي كناية رمزية وأنهم يعلمون أنه لم يسألهم أجراً { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين } [ ص : 86 ، 87 ] أو إن كنت سألتكم أجراً فلا تعطونيه ، وإن كنتم أعطيتم شيئاً فاستردّوه ، فكُنِّي بهذا الشرط المحقّق انتفاؤه عند انتفاء أن يكون طالباً أجراً منهم على حدّ قوله تعالى : { إن كنت قلته فقد علمته } [ المائدة : 116 ] . وهذا ما صرح به عقبه من قوله { إن أجري إلا على الله } ، فجيء بالشرط بصيغة الماضي ليدلّ على انتفاء ذلك في الماضي فيكون انتفاؤه في المستقبل أجدر ؛ على أن وقوعه في سياق الشرط يقضي بانتفائه في المستقبل أيضاً . وهذا جار مجرَى التحدِّي لأنه لو كان لجماعتهم أو آحادهم علم بأنه طلب أجراً منهم لجَارُوا حين هذا التحدّي بمكافحته وطالبوه بردّه عليهم .
وينتقل من هذا إلى تعين أن ما دعاهم إليه لا ينتفع به غيرهم بالنجاة من العذاب ، وقد تكرر في القرآن التبرؤ من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أجراً أو يتطلب نفعاً لأن انتفاء ذلك ما يلاقيه من العناء في الدعوة دليل أنه مأمور بذلك من الله لا يريد جزاء منهم .
و { مَا } يجوز أن تكون شرطية ، و { من أجر } بياناً لإِبهام { ما } وجملة { فهو لكم } جواب الشرط . ويجوز أن تكون { ما } نافية . وتكون { من } لتوكيد عموم النكرة في النفي ، وتكون الفاء في قوله : { فهو لكم } تفريعاً على نفي الأجر ، وضمير « هو » عائداً على القرآن المفهوم من المقام ومن تقدم قوله : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } [ سبأ : 43 ] أي فهذا القرآن لفائدتكم لا لفائدتي لأن قوله : { ما سألتكم من أجر } يفيد أن لا فائدة له في هذه الدعوة .
ويكون معنى الآية نظيرَ معنى قوله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين } [ ص : 86 ، 87 ] .
والأجْر تقدم عنه قوله تعالى : { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } في سورة القصص ( 25 ) .
وجملة { إن أجري إلا على الله } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر أن يسأل السامع : كيف لا يكون له على ما قام به أجر ، فأجيب بأن أجره مضمون وَعَده الله به لأنه إنما يقوم بعمل لمرضاته وامتثال أمره فعليه أجره .
وحرف { على } يقتضي أنه حق الله وذلك بالنظر إلى وَعده الصادق ، ثم ذيّل ذلك باستشهاد الله تعالى على باطنه ونيته التي هي من جملة الكائنات التي الله شهيد عليها ، وعليم بخفاياها فهو من باب : { قل كَفى بالله شهيداً بيني وبينكم } [ الرعد : 43 ] أي وهو شاهد على ذلك كله .
والأجر : عوض نافع على عمل سواء كان مالاً أو غيره .
وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وحفص ياء { أجريَ } مفتوحة . وقرأها ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي ساكنة ، وهما وجهان من وجوه ياء المتكلم في الإِضافة .