ف { قَالُوا } رادين لقوله : { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } إن كان قصدهم بالبينة البينة التي يقترحونها ، فهذه غير لازمة للحق ، بل اللازم أن يأتي النبي بآية تدل على صحة ما جاء به ، وإن كان قصدهم أنه لم يأتهم ببينة ، تشهد لما قاله بالصحة ، فقد كذبوا في ذلك ، فإنه ما جاء نبي لقومه ، إلا وبعث الله على يديه ، من الآيات ما يؤمن على مثله البشر .
ولو لم يكن له آية ، إلا دعوته إياهم لإخلاص الدين لله ، وحده لا شريك له ، والأمر بكل عمل صالح ، وخلق جميل ، والنهي عن كل خلق ذميم من الشرك بالله ، والفواحش ، والظلم ، وأنواع المنكرات ، مع ما هو مشتمل عليه هود ، عليه السلام ، من الصفات ، التي لا تكون إلا لخيار الخلق وأصدقهم ، لكفى بها آيات وأدلة ، على صدقه .
بل أهل العقول ، وأولو الألباب ، يرون أن هذه الآية ، أكبر من مجرد الخوارق ، التي يراها بعض الناس ، هي المعجزات فقط . ومن آياته ، وبيناته الدالة على صدقه ، أنه شخص واحد ، ليس له أنصار ولا أعوان ، وهو يصرخ في قومه ، ويناديهم ، ويعجزهم ، ويقول لهم : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ }
ولكن قوم هود - عليه السلام - قابلوا كل ذلك بالتطاول عليه ، والسخرية منه فقالوا : { قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ . . } .
والبينة : ما يتبين به الحق من الباطل . أى : قالوا له يا هود إنك لم تجئنا بحجة تقنعنا بأنك على الحق فيما تدعو إليه ، وترضى نفوسنا وطباعنا وعاداتنا .
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : { وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } .
أى : وما نحن بتاركى آلهتنا بسبب قولك لنا الخالى عن الدليل : ارتكوا عبادتها واجعلوا عبادتكم لله وحده .
ثم أكدوا إصرارهم على كفرهم بقوله { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أى : بمستجيبين لك ومصدقين .
تلك كانت دعوة هود - ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة . ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم ، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم ، وقد ذكرهم به في سورة أخرى - فأما قومه فظنوا به الظنون . .
( قالوا . يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . ) .
إلى هذا الحد بلغ الانحراف في نفوسهم ، إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي ، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء ، فأصيب بالهذيان !
( يا هود ما جئتنا ببينة ) . . .
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة ، إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير ، وإلى استجاشة منطق الفطرة ، واستنباء الضمير .
( وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيَ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال قوم هود لهود : يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول ، فنسلم لك ، ونقرّ بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوّتك . وَما نَحْنَ بِتارِكِي آلِهَتِنا يقول : وما نحن بتاركي آلهتنا يعني لقولك : أو من أجل قولك . وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ يقول : قالوا : وما نحن لك بما تدّعي من النبوّة والرسالة من الله إلينا بمصدّقين .
المعنى : { ما جئتنا } بآية تضطرنا إلى الإيمان بك ونفوا أن تكون معجزاته آية بحسب ظنهم وعماهم عن الحق ، كما جعلت قريش القرآن سحراً وشعراً ونحو هذا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر » الحديث{[6390]} ، وهذا يقضي بأن هوداً وغيره من الرسل لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها .
وقوله : { عن قولك } أي لا يكون قولك سبب تركنا إذ هو مجرد عن آية .
محاورة منهم لهود عليه السّلام بجواب عن دعوته ، ولذلك جردت الجملة عن العاطف .
وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه ، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه ، فهو مستعمل في معناه الكنائيّ أيضاً . وقد يكون مراداً منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية ، أو استعمال النّداء في حقيقته ومجازه .
وقولهم : { ما جئتنا ببينة } بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى : { وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم } [ هود : 59 ] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليه السّلام . ولعل آيته أنّه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطّراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم ، كما يشير إليه قوله تعالى : { وقالوا مَن أشد منا قوةً } [ فصلت : 15 ] .
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أُوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر » الحديث .
وإنما أرادوا أن البيّنات التي جاءهم بها هود عليه السّلام لم تكن طبقاً لمقترحاتهم . وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا : { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك } . ولم يجعلوا { وما نحن بتاركي } مفرّعاً على قولهم : { ما جئتنا ببينة } .
و { عن } في { عن قولك } للمجاوزة ، أي لا نتركها تركاً صادراً عن قولك ، كقوله : { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 82 ] . والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.