{ 79 - 80 } { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
وهذا أيضا من مخازي المنافقين ، فكانوا -قبحهم اللّه- لا يدعون شيئا من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا ، إلا قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا ، فلما حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة ، بادر المسلمون إلى ذلك ، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله ، منهم المكثر ، ومنهم المقل ، فيلمزون المكثر منهم ، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة ، وقالوا للمقل الفقير : إن اللّه غني عن صدقة هذا ، فأنزل اللّه تعالى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي : يعيبون ويطعنون { الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيقولون : مراءون ، قصدهم الفخر والرياء .
{ و } يلمزون { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } فيخرجون ما استطاعوا ويقولون : اللّه غني عن صدقاتهم { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ }
. فقابلهم الله على صنيعهم بأن { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير .
منها : تتبعهم لأحوال المؤمنين ، وحرصهم على أن يجدوا مقالا يقولونه فيهم ، واللّه يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ومنها : طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم ، كفر باللّه تعالى وبغض للدين .
ومنها : أن اللمز محرم ، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا ، وأما اللمز في أمر الطاعة ، فأقبح وأقبح .
ومنها : أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير ، فإن الذي ينبغي[ هو ] إعانته ، وتنشيطه على عمله ، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم ، وعابوهم عليه .
ومنها : أن حكمهم على من أنفق مالا كثيرا بأنه مراء ، غلط فاحش ، وحكم على الغيب ، ورجم بالظن ، وأي شر أكبر من هذا ؟ ! !
ومنها : أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة : " اللّه غني عن صدقة هذا " كلام مقصوده باطل ، فإن اللّه غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير ، بل وغني عن أهل السماوات والأرض ، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ، فاللّه -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين ، ولهذا كان جزاؤهم أن سخر اللّه منهم ، ولهم عذاب أليم .
ثم حكى - سبحانه - موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل الله ، فقال - سبحانه : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين . . . } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم . إن جاء أحد منهم بمال جزيل ، قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشئ يسير قالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، كما روى البخارى عن أبى مسعود - رضى الله عنه - قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا - أى : نؤاجر أنفسنا في الحمل - فجاء رجل فتصدق بشئ كثير ، فقالوا هذا يقصد الرياء ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ، فنزلت هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثنا ، - أى إلى تبوك - قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله . . إن عندى أربعة آلاف : ألفين أقرضهما الله ، وألفين لعيالى .
قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت " ؟ ! فقال رجل من الأنصار : وإن عندى صاعين من تمر ، صاعا لربى ، وصاعا لعيالى ، قال : فلمز المنافقون وقالوا : ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء ! !
وقالوا : أو لم يكن الله غنيا من صاع هذا ! ! فأنزل الله - تعالى - { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } " .
وقال ابن اسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى - أخابنى عجلان - وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في الصدقة وحض عليها . فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما ، وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل - أخبانى أنيف - أتى بصاع من تمر ، فأفرغها في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآية ، وهناك روايات أخرى ، قريبة في معناها بما ذكرناها .
وقوله : " يلمزون " من اللمز ، يقال : لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه .
والمراد بالمطوعين : أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار ، من أجل إعلاء كلمة الله .
والمراد بالصدقات : صدقات التطوع التي يقدمها المسلم زيادة على الفريضة .
والمراد بالذين لا يجدون إلا جهدهم : فقراء المسلمين . الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال مع قلته ، إذ الجهد : الطاقة ، وهى أقصى ما يستطيعه الإِنسان .
والمعنى : إن من الصفات القحبية - أيضاً للمنافقين ، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين ، إذا ما بذلوا أمولهم لله ورسوله عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، وسماحة ضمير .
وذلك لأن هؤلاء المنافقين - لخلو قلوبهم من الإِيمان - كانوا لا يدركون الدوافع السامية ، والمقاصد العالية من وراء هذا البذل . .
ومن أجل هذا كانوا يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وكانوا يقولون عن المقل : إن الله غنى عن صدقته ، فهم - لسوء نواياهم وبخل نفوسهم ، وخبث قلوبهم - لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله روسوله .
وقوله : { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } معطوف على قوله : { المطوعين } .
أى : أن هؤلاء المنافقين يلزمون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير ، ويلمزون الفقراء الباذلين للمال القليل ؛ لأنه هو مبلغ جهدهم ، وآخر طاقتهم .
وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين .
أى : إن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عندما يلبون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِنفاق في سبيل الله .
وجاء عطف { فَيَسْخَرُونَ } على { يَلْمِزُونَ } بالفاء ، للإِشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء بالمؤمنين ، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله .
وقوله : { سَخِرَ الله مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم .
أى : إن هؤلاء الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم في الدنيا ، بأن فضحهم وأخزاهم ، وجعلهم حل الاحتقار والازدراء . . .
أما جزاؤهم فىا لآخرة فهو العذاب الأليم الذي لا يخف ولا ينقطع .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم بالعذاب الأليم .
والآن يعرض السياق لونا آخر من تصورات المنافقين للزكاة يخالفون به ذلك التصور الحق عند المؤمنين الصادقين ؛ ويكشف عن لون من طبيعة الغمز فيهم واللمز ، النابعين من طبعهم المنحرف المدخول :
( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا جهدهم ، فيسخرون منهم . سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم ) . .
والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية ، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل اللّه وبواعثه في النفوس .
أخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير ، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة - بألفاظ مختلفة - قال : حث رسول اللّه - [ ص ] - على الصدقة [ يعني في غزوة تبوك ] فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال : يا رسول اللّه مالي ثمانية آلاف ، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها . فقال : " بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال : يا رسول اللّه أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون ، وقالوا : ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء . وقالوا : ألم يكن اللّه ورسوله غنيين عن صاع هذا ?
وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل ، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجرا له ، جاء بأحدهما لرسول اللّه - [ ص ] - إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه !
وهكذا تقولوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، واطمئنان ضمير ، ورغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته ، وكل على غاية جهده . ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة . لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر . لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثاً ذاتياً ، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة . من أجل هذا يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وعن المقل ! إنه يذكر بنفسه . يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيراً ، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل . فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين . ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس ، لا ينفقون إلا رياء ، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير .
ومن ثم يجبههم الرد الحاسم الجازم :
سخر اللّه منهم ولهم عذاب اليم . .
ويا لهولها سخرية . ويالهولها عاقبة . فمن شرذمة صغيرة هزيلة من البشر الضعاف الفانين وسخرية الخالق الجبار تنصب عليهم وعذابه يترقبهم ? ! ألا إنه للهول المفزع الرهيب !
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
يقول تعالى ذكره : الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم ، ويطعنون فيها عليهم بقولهم : إنما تصدّقوا به رياء وسمعة ، ولم يريدوا وجه الله ، ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدّقون به إلا جهدهم ، وذلك طاقتهم ، فينتقصونهم ويقولون : لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيّا سخرية منهم ربهم . فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وقد بينا صفة سخرية الله بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا . وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : ولهم من عند الله يوم القيامة عذاب موجع مؤلم .
وذُكر أن المعنيّ بقوله : المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عديّ الأنصاري ، وأن المعنيّ بقوله : والّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لا يجدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم : أن اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ فجمع الناس صدقاتهم . ثم جاء رجل من أحوجهم بمنّ من تمر ، فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر ، بتّ ليلتي أجرّ بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما وأتيتك بالاَخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال وقالوا : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا ، وما يصنعان بصاعك من شيء ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات ؟ فقال : «لا » فقال عبد الرحمن بن عوف : إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت ؟ فقال : ليس بي جنون . فقال : أتعلم ما قلت ؟ قال : نعم ، مالي ثمانية آلاف : أما أربعة فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ وَفِيما أعْطَيْتَ » وكره المنافقون فقالوا : والله ما أعطي عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا . فأنزل الله عذره ، وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال الله في كتابه : والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ . . . الآية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف ، فلمزه المنافقون ، وقالوا : راءى . والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ قال : رجل من الأنصار ، آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره ، فجاء به فلمزوه ، وقالوا : كان الله غنيّا عن صاع هذا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . . . الآية ، قال : أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله ، فتقرّب به إلى الله ، فلمزه المنافقون ، فقالوا : ما أعطى ذلك إلا رياءً وسمعة فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له : حبحاب أبو عقيل ، فقال : يا نبي الله ، بتّ أجر الجرير على صاعين من تمر : أما صاع فأمسكته لأهلي ، وأما صاع فها هو ذا . فقال المنافقون : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا فأنزل الله في ذلك القرآن : الّذِينَ يَلْمِزُونَ . . الآية .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال : تصدّق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف دينار ، فتصدّق بأربعة آلاف دينار ، فقال ناس من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء فقال الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ وكان لرجل صاعان من تمر ، فجاء بأحدهما ، فقال ناس من المنافقين : إن كان الله عن صاع هذا لغنيّا فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم ، فقال الله : وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابّ ألِيمٌ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «تَصَدّقُوا فإنّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْثا » قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إن عندي أربعة آلاف : ألقين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أعْطَيْتُ ، وبَارَكَ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ » فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي قال : فلمز المنافقون ، وقالوا : ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً وقالوا : أو لم يكن الله غنيّا عن صاع هذا فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . . . إلى آخر الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد . قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال : أصاب الناس جهد شديد ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدّقوا ، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُم بارِكْ لَهُ فيما أمْسَكَ » فقال المنافقون : ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياءً وسمعه وقال : وجاء رجل بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي وجئت بصاع من تمر . فقال المنافقون : إن الله غنيّ عن صاع هذا فأنزل الله هذه الآية : والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ . . . الآية ، وكان من المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف ، تصدّق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدّي أخو بني عجلان . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغّب في الصدقة وحضّ عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدّق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدّي فتصدّق بمائة وسق من تمر . فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدّق بجهده أبو عقيل ، أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود ، قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان : كنا نعمل قال : فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير ، قال : وجاء رجل فتصدق بصاع تمر ، فقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع هذا فنزلت : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة ، قال : ثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أظبيه ، قال : بتّ أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلّغون به ، وجئت بالاَخر أتقرّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : «انْثُرْهُ في الصّدَقَةِ » فسخر المنافقون منه وقالوا : لقد كان غنيّا عن الصدقة هذا المسكين فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ . . . الاَيتين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل ، قال : وقف على الحيّ رجل ، فقال : ثني أبي أو عمي ، فقال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : وعليّ عمامة لي ، قال : فنزعت لَوْثا أو ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل ، قال : وقف على الحيّ رجل ، فقال : ثني أبي أو عمي ، فقال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : وعليّ عمامة لي ، قال : فنزعت لَوْثا أو ألقي بخطامها أو بزمامها . قال : فلمزه رجل جالس ، فقال : والله إنه ليتصدّق بها ولهي خير منه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ومِنْها » . يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، يقول : الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون ، أبو خيثمة الأنصاريّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال : حدثنا عامر بن يِساف اليمامي ، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي ، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » وجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله ، بتّ الليلة أجر الماء على صاعين ، فأما أحدهما فتركت لعيالي ، وأما الاَخر فجئتك به ، اجعله في سبيل الله فقال : «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » فقال ناس من المنافقين : والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة ، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ يعني عبد الرحمن بن عوف ، والّذِينَ لاَ يَجِدُون إلاّ جُهْدَهُمْ يعني صاحب الصاع ، فَيَسْخَرُونَ منْهُمْ سَخَرَ اللّهُ منْهُمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال ابن عباس : أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم ، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف ، فقال : هذا مالي أقرضه الله وقد بقي لي مثله فقال له : «بُورِكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » فقال المنافقون : ما أعطي إلا رياء ، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء ، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا وما يصنع الله بصاع من شيء ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ . . . إلى قوله : ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدقوا ، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالاً وافرا ، فأخذ نصفه قال : فجئت أحمل مالاً كثيرا ، فقال له رجل من المنافقين : ترائي يا عمر ؟ فقال عمر : أرائي الله ورسوله ، وأما غيرهما فلا . قال : ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فآجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته ، فترك صاعا لعياله وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان فذلك قول الله تبارك وتعالى : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ هذا الأنصاري ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .
وقد بينا معنى اللمز في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى وأما قوله : المُطّوّعِينَ فإن معناه : المتطوّعين ، أدغمت التاء في الطاء ، فصارت طاء مشددة ، كما قيل : وَمَنْ يَطّوّعْ خَيْرا يعني يتطوّع . وأما الجهد فإن للعرب فيه لغتين ، يقال : أعطاني من جُهده بضم الجيم ، وذلك فيما ذكر لغة أهل الحجاز ، ومن جَهْدٍ بفتح الجيم ، وذلك لغة نجد . وعلى الضم قراءة الأمصار ، وذلك هو الاختيار عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية ، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد . وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه كما اختلفت لغاتهم في الوُجد والوَجْد بالضم والفتح من «وجدت » .
حدثنا أبو كريب . قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : الجُهْد في العمل ، والْجَهْد في القوت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبي ، مثله .
قال : حدثنا ابن إدريس ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : الجُهْد في العمل ، والجَهْد في المعيشة .
قوله { الذين يلمزون } رد على الضمائر في قول { يكذبون } [ التوبة : 77 ] و { ألم يعلموا } [ التوبة : 87 ] و { سرهم ونجواهم } [ التوبة : 78 ] و { يلمزون } معناه ينالون بألسنتهم ، وقرأ السبعة «يلمِزون » بكسر الميم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمُزون » بضم الميم ، و { المطوعين } لفظة عموم في كل متصدق ، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله ، عطفاً على { المطوعين } ، { والذين لا يجدون } ، ولو كان { الذين لا يجدون } قد دخلوا في { المطوعين } لما ساغ عطف الشيء على نفسه ، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5797]} فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين .
وكذلك قال في قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان }{[5798]} وفي هذا كله نظر ، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها ، وأصل { المطوعين } المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم ، وأما المتصدق بكثير الذي كان سبباً للآية فأكثر الروايات «أنه عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت »{[5799]} .
وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله ، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق ، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي ، تصدق بصاع من تمر وقال : يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة .
فقال المنافقون : الله غني عن صدقة هذا ، وقال بعضهم : إن الله غني عن صاع أبي عقيل{[5800]} ، وقيل : إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة ، وقيل أقل من هذا .
فقال المنافقون : ما هذا إلا رياء ، فنزلت الآية في هذا كله ، وقوله : { فيسخرون } معناه يستهزئون ويستخفون ، وهو معطوف على { يلمزون } ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله { والذين لا يجدون } ، وهذا لا يلزم ، لأن قوله { والذين } معمول للذي عمل في { المطوعين } فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيداً وعمراً فقتلهما ، وقوله : { سخر الله منهم } تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم ، وقوله : { ولهم عذاب أليم } معناه مؤلم ، وهي آية وعيد محض ، وقرأ جمهور «جُهدهم » بضم الجيم ، وقرأ الأعرج وجماعة معه «جَهدهم » بالفتح ، وقيل هما بمعنى واحد ، وقاله أبو عبيدة ، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم ، ونحوه عن الشعبي{[5801]} ، وقوله : { الذين يلمزون } يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين ، ويصح أن يكون ابتداء وخبره { سخر } ، وفي { سخر } معنى الدعاء عليهم .
ويحتمل أن يكون خبراً مجرداً عن الدعاء ، ويحتمل أن يكون { الذين } صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة .
استئناف ابتدائي ، نزلت بسبب حادث حدث في مدّة نزول السورة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وجاء عَاصم بن عَدِي بأوسقٍ كثيرة من تمر ، وجاء أبو عَقيل بصاع من تمر ، فقال المنافقون : ما أعطَى عبدُ الرحمن وعاصم إلاّ رياءً وأحَبَّ أبو عَقيل أن يُذكِّر بنفسه ليُعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية .
فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة { سخر الله منهم .
واللمز : الطعن . وتقدّم في هذه السورة في قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] . وقرأه يعقوب بضمّ الميم كما قرأ قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] .
و { المُطّوّعين } أصله المُتَطَوّعين ، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما .
و { في } للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبَّب .
وعُطف الذين لا يجدون إلاّ جهدهم على المطوعين وهم منهم ، اهتماماً بشأنهم والجُهد بضمّ الجيم الطاقة . وأطلقت الطاقة على مسبّبها الناشئ عنها .
وحُذف مفعول { يجدون } لظهوره من قوله : { الصدقات } أي لا يجدون ما يتصدّقون به إلاّ جهدهم .
والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدّقون به إلاّ طاقتهم ، أي جُهد أبدانهم . أو يكونُ وجَدَ هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة ، أي غنىً فلا يقدر له مفعول ، أي الذين لا مال لهم إلاّ جُهدهم وهذا أحسن .
وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنّها تقوم مقام المال .
وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل .
والسخرية : الاستهزاء . يقال : سخر منه ، أي حصلت السخرية له من كذا ، فمن اتّصالية .
واختير المضارع في يلمزون ويسخَرون للدلالة على التكرر .
وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسَّنتْه المشاكلة لفعلهم ، والمعنى أنّ الله عامَلَهم معاملةً تُشبه سخرية الساخر ، على طريقة التمثيل ، وذلك في أنْ أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمناً ثم أمْرِه بفضحهم .
ويجوز أن يكون إطلاق سَخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل ، أي احتقرهم ولعنهم ولمّا كان كلّ ذلك حاصلاً من قبل عبّر عنه بالماضي في { سخر الله منهم
وجملة : { ولهم عذاب أليم } عطف على الخبر ، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة .