ف { قَالَ } موسى عليه السلام -مجيبا له فيما طلبه منه- : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : هذا الشرط ، الذي أنت ذكرت ، رضيت به ، وقد تم فيما بيني وبينك . { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } سواء قضيت الثماني الواجبة ، أم تبرعت بالزائد عليها { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } حافظ يراقبنا ، ويعلم ما تعاقدنا عليه .
وهذا الرجل ، أبو المرأتين ، صاحب مدين ، ليس بشعيب النبي المعروف ، كما اشتهر عند كثير من الناس ، فإن هذا ، قول لم يدل عليه دليل ، وغاية ما يكون ، أن شعيبا عليه السلام ، قد كانت بلده مدين ، وهذه القضية جرت في مدين ، فأين الملازمة بين الأمرين ؟
وأيضا ، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ، فكيف بشخصه ؟ " ولو كان ذلك الرجل شعيبا ، لذكره اللّه تعالى ، ولسمته المرأتان ، وأيضا فإن شعيبا عليه الصلاة والسلام ، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه ، ولم يبق إلا من آمن به ، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم ، بمنعهما عن الماء ، وصد ماشيتهما ، حتى يأتيهما رجل غريب ، فيحسن إليهما ، ويسقي ماشيتهما ، وما كان شعيب ، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له ، وهو أفضل منه وأعلى درجة ، والله أعلم ، [ إلا أن يقال : هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ]{[600]} .
ثم حكى - سبحانه - ما رد به موسى فقال : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
أى : { قَالَ } موسى فى الرد على الشيخ الكبير { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أى : ذلك الذى قلته لى واشترطته على ، كائن وحاصل بينى وبينك ، وكلانا مطالب بالوفاء به فاسم الإشارة مبتدأ ، وبينى وبينك خبره ، والإشارة مرجعها إلى ما تعاقدا عليه ، وأى فى قوله : { أَيَّمَا الأجلين } شرطية ، وجوابها ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } و ( وما ) مزيدة للتأكيد .
والمعنى : أى الأجلين ، أى الثمانية الأعوام أو العشرة الأعوام { قَضَيْتُ } أى : وفيت به ، وأديته معك أجيرا عندك { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى : فلا ظلم على ، وأصل العدوان : تجاوز الحد .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : أى قال موسى : ذلك الذى قلته . . . قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك . . . ثم قال : أى أجل من الأجلين قضيت - أطولهما أو أقصرهما - { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى : فلا يعتدى على فى طلب الزيادة عليه . فإن قلت : تصور العدوان إنما هو فى أحد الأجلين الذى هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا ؟
قلت : معناه ، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمانى . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما فى القضاء ، وأما التتمة فهى موكولة إلى رأيى . إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .
والمقصود بقوله : { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } . توثيق العهد وتأكيده ، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا .
أى : والله - تعالى - شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه ، وتعاهدنا على تنفيذه ، وكفى بشهادته - سبحانه - شهادة .
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار التى تدل على أن موسى - عليه السلام - قد قضى أطول الأجلين . ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سألت جبريل : أى الأجلين قضى موسى ؟ قال : " أكملهما وأتمهما ، وفى رواية : أبرهما وأوفاهما " " .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يرى فيها بجلاء ووضوح ، ما جبل عليه موسى - عليه السلام - من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله فى كل موطن على إعانة المحتاج ، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين ، ومن عاطفة رقيقة تجعله فى كل الأوقات دائم التذكر لخالقه ، كثير التضرع إليه بالدعاء .
كما يرى فيها الفطرة السوية ، والصدق مع النفس ، والحياء ، والعفاف ، والوضوح ، والبعد عن التكلف والالتواء ، كل ذلك متمثل فى قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهم ، واللتين إحداهما تمشى على استحياء ، ثم قالت لأبيها : يا أبت استأجره .
كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح ، ومن قول طيب حكيم ، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف ، ومن أبوة حانية رشيدة ، تستجيب للعواطف الشريفة ، وتعمل على تحقيق رغباتها عن طريق الزواج الذى شرعه الله - تعالى - .
وقبل موسى العرض وأمضى العقد ؛ في وضوح كذلك ودقة ، وأشهد الله :
( قال ذلك بيني وبينك . أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على . والله علي ما نقول وكيل ) .
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها ، ولا اللعثمة ، ولا الحياء . ومن ثم يقر موسى العرض ، ويبرم العقد ، على ما عرض الشيخ من الشروط . ثم يقرر هذا ويوضحه : ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) . . سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا ، فلا عدوان في تكاليف العمل ، ولا عدوان في تحتيم العشر ؛ فالزيادة على الثمانية اختيار . . ( والله على ما نقول وكيل ) . فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين . وكفى بالله وكيلا .
بين موسى - عليه السلام - هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته ، ووضوح شخصيته ، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان . وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل . فقد روي أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أخبر أنه : " قضى أكثرهما وأطيبهما " .
وهكذا اطمأن بموسى - عليه السلام - المقام في بيت حميه ؛ وقد أمن من فرعون وكيده . ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان . . فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي . فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
يقول تعالى ذكره : قالَ وموسى لأبي المرأتين ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي هذا الذي قلت من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حِجَج ، واجب بيني وبينك ، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه .
وقوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ يقول : أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجج قضيت ، يقول : فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك فَلا عُدْوَانَ عَليّ يقول : فليس لك أن تعتدي عليّ ، فتطالبني بأكثر منه ، و«ما » في قوله : أيّمَا الأجَلَيْنِ صلة يوصل بها أيّ على الدوام ، وزعم أهل العربية أن هذا أكثر في كلام العرب من أيّ ، وأنشد قول الشاعر :
وأيّهُما ما أتْبَعَنّ فإنّنِي *** حَرِيصٌ عَلى أثْرِ الّذِي أنا تابِعُ
فَأَيّي ما وأيّكَ كانَ شَرّا *** فَقِيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قال موسى ذلكَ بَيْني وبَيْنَكَ أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : نعم . واللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ فزوّجه ، وأقام معه يكفيه ، ويعمل له في رعاية غنمه ، وما يحتاج إليه منه ، وزوجة موسى صفورا أو أختها : شرفا أو لَيّا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال ابن عباس الجارية التي دعته هي التي تزوّج .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال له إنّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتيّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي . . . إلى آخر الاَية ، قال : وأيتهما تريد أن تنكحني ؟ قال : التي دعتك ، قال : لا . ألا وهي بريئة مما دخل نفسك عليها ، فقال : هي عندك كذلك ، فزوّجه . وبنحو الذي قلنا في قوله : أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَ ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ إما ثمانيا ، وإما عشرا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل قال أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ قال : فقال القاسم : ما أبالي أيّ ذلك كان ، إنما هو موعد وقضاء .
وقوله : وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ يقول : والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول ، شهيد وحفيظ . كالذي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ قال : شهيد على قول موسى وخَتَنه . وذكر أن موسى وصاحبه لما تعاقدا بينهما هذا العقد ، أمر إحدى ابنتيه أن تعطِيَ موسى عصا من العصيّ التي تكون مع الرعاة ، فأعطته إياه ، فذكر بعضهم أنها العصا التي جعلها الله له آية . وقال بعضهم تلك عصا أعطاه إياها جبريل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر يعني أبا المرأتين إحدى ابنتيه أن تأتيه ، يعني أن تأتيَ موسى بعصا ، فأتته بعصا ، وكانت تلك العصا عصا استودعها إياه مَلَك في صورة رجل ، فدفعها إليه ، فدخلت الجارية ، فأخذت العصا ، فأتته بها فلما رآها الشيخ قال : لا ، ائتيه بغيرها ، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها ، فلا يقع في يدها إلاّ هي ، وجعل يردّدها ، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها فلما رأى ذلك عمد إليها ، فأخرجها معه ، فَرعَى بها . ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فخرج يتلقى موسى ، فلما لقيه قال : أعطني العصا ، فقال موسى : هي عَصَاي ، فأبى أن يعطيه ، فاختصما ، فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقال : ضعوها في الأرض ، فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، وأخذ موسى بيده فرفعها ، فتركها له الشيخ ، فرعَى له عشر سنين . قال عبد الله بن عباس . كان موسى أحقّ بالوفاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قال يعني أبا الجارية لما زوّجها لموسى : أدخل ذلك البيت فخذ عصا ، فتوكأ عليها ، فدخل ، فلما وقف على باب البيت ، طارت إليه تلك العصا ، فأخذها ، فقال : اردُدها وخذ أخرى مكانها ، قال : فردّها ، ثم ذهب ليأخذ أخرى ، فطارت إليه كما هي ، فقال : لا أردها ، فعل ذلك ثلاثا ، فقال : ارددها ، فقال : لا أجد غيرها اليوم ، فالتفت إلى ابنته ، فقال لابنته : إن زوجك لنبيّ . ذكر من قال التي كانت آيةً عصا أعطاها موسى جبرائيل عليه السلام :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، قال : سألت عكرِمة قال : أما عصا موسى ، فإنها خرج بها آدم من الجنة ، ثم قبضها بعد ذلك جبرائيل عليه السلام ، فلقي موسى بها ليلاً ، فدفعها إليه .
لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج ، و { أيما } استفهام نصبه ب { قضيت } وما صلة للتأكيد ، وقرأ الحسن «أيْما » بسكون الياء ، وقرأ ابن مسعود «أي الأجلين ما قضيت » ، وقرأ الجمهور «فلا عُدوان » بضم العين وقرأ أبو حيوة «فلا عِدوان » بكسر العين ، والمعنى لا تبعة علي من قول ولا فعل ، و «الوكيل » الشاهد القائم بالأمر ، قال ابن زيد : ولما كمل هذا النكاح بينهما أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت له فيه عصيّ وفيه هذا العصا ، فروي أن العصا وثبت إلى موسى فأخذها وكانت عصا آدم وكانت من عير ورقة الريحان ، فروي أن شعيباً أمره بردها ففعل وذهب يأخذ غيرها ، فوثبت إليه ، وفعل ذلك ثالثة ، فلما رأى شعيب ذلك علم أنه يرشح للنبوءة فتركها له ، وقيل إنما تركها له لأنه أمر موسى بتركها ، فأبى موسى ذلك فقال له شعيب : نمد إليها جميعاً فمن طاوعته فهي له ، فمد إليها شعيب يده فثقلت ، ومد إليها موسى فخفت ووثبت إليه ، فعلما أن هذا من الترشيح ، وقال عكرمة : إن عصا موسى إنما دفعها إليه جبريل ليلاً عند توجهه إلى مدين .