{ 88 - 89 ْ } { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ }
يقول تعالى : إذا تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد ، فاللّه سيغني عنهم ، وللّه عباد وخواص من خلقه اختصهم بفضله يقومون بهذا الأمر ، وهم { الرَّسُولُ ْ } محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ْ } غير متثاقلين ولا كسلين ، بل هم فرحون مستبشرون ، { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ْ } الكثيرة في الدنيا والآخرة ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ْ } الذين ظفروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب .
وقوله - سبحانه - { لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } استدراك لبيان حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، بعد بيان حال المنافقين .
أى : إذا كان حال المنافقين كما وصفنا من جبن وتخاذل وهو أن . . . فإن حال المؤمنين ليس كذلك ، فإنهم قد وقفوا إلى جانب رسولهم - صلى الله عليه وسلم - فجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله ، وأطاعوه في السر والعلن ، وآثروا ما عند الله على كل شئ في هذه الحياة . .
وقد بين - سبحانه - جزاءهم الكريم فقال : { وأولئك لَهُمُ الخيرات } أى : أولئك المؤمنون الصادقون لهم الخيرات التي تسر النفس ، وتشرح الصدر في الدنيا والآخرة { وأولئك هُمُ المفلحون } الفائزون بسعادة الدارين .
القول في تأويل قوله تعالى : { لََكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين ، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدّقوا الله ورسوله معه هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم ، فأنفقوا في جهادهم أموالهم وأتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها . وأولَئِكَ يقول : وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم الخيرات ، وهي خيرات الاَخرة ، وذلك نساؤها وجناتها ونعيمها ، واحدتها : خَيْرة ، كما قال الشاعر :
وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامعَ الرّبلاَتِ *** رَبلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملَكاتِ
والخيرة من كلّ شيء : الفاضلة . وأُولَئكَ هُمُ المُفْلحُونَ يقول : وأولئك هم المخلدون في الجنات الباقون فيها الفائزون بها .
الأكثر في { لكن } أن تجيء بعد نفي ، وهو ها هنا في المعنى ، وذلك أن الآية السالفة معناها أن المنافقين لم يجاهدوا فحسن بعدها «لكن الرسول والمؤمنون جاهدوا » ، و { الخيرات } جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء ، وكثر استعماله في النساء ، فمن ذلك قوله عز وجل : { فيهن خيرات حسان }{[5824]} ومن ذلك قول الشاعر أنشده الطبري : [ الكامل ]
ولقد طعنت مجامع الربلات *** ربلات هند َخيرة الملكات{[5825]}
و { المفلحون } الذين أدركوا بغيتهم من الجنة ، والفلاح يأتي بمعنى إدراك البغية ، من ذلك قول لبيد : [ الرجز ]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض*** عف وقد يخدع الأريب{[5826]}
ويأتي بمعنى البقاء ومن ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لكل همٍّ من الهموم سعهْ*** والمسى والصبح لا فلاح معهْ{[5827]}
قال القاضي أبو محمد : وبلوغ البغية يعم لفظة الفلاح حيث وقعت فتأمله .
افتتاح الكلام بحرف الاستدراك يؤذن بأنّ مضمون هذا الكلام نقيض مضمون الكلام الذي قبله أصلاً وتفريعاً . فلمّا كان قعود المنافقين عن الجهاد مسبباً على كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون على الضدّ من ذلك . وابتدئ وصف أحوالهم بوصف حال الرسول لأنّ تعلّقهم به واتّباعهم إياه هو أصل كمالهم وخيرِهم ، فقيل : { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا } .
وقوله : { بأموالهم وأنفسهم } مقابل قوله : { استأذنك أولُوا الطَّوْل منهم } [ التوبة : 86 ] .
وقوله : { وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون } مقابل قوله : { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } [ التوبة : 87 ] كما تقدّم .
وفي حرفِ الاستدراك إشارة إلى الاستغناء عن نصرة المنافقين بنصرة المؤمنين الرسولَ كقوله : { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] .
وقد مضى الكلام على الجهاد بالأموال عند قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالهم وأنفسكم } [ التوبة : 41 ] .
وفي قوله : { والذين آمنوا معه } تعريض بأنّ الذين لم يجاهدوا دون عذر ليسوا بمؤمنين .
و { معه } في موضع الحال من { الذين } لتدلّ على أنّهم أتباع له في كلّ حال وفي كلّ أمر ، فإيمانهم معه لأنّهم آمنوا به عند دعوته إيّاهم ، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم معه ، وفيه إشارة إلى أنّ الخيرات المبثوثة لهم في الدنيا والآخرة تابعة لخيراته ومقاماته .
وعُطفت جملة : { وأولئك لهم الخيرات } على جملة { جاهدوا } ولم تُفصل مع جواز الفصل ليُدَلّ بالعطف على أنّها خبر عن الذين آمنوا ، أي على أنّها من أوصافهم وأحوالهم لأنّ تلك أدلّ على تمكّن مضمونها فيهم من أن يُؤتى بها مستأنفة كأنّها إخبار مستأنف .
والإتيان باسم الإشارة لإفادة أنّ استحقاقهم الخيرات والفلاح كان لأجل جهادهم .
والخيرات : جمع خَيْر على غير قياس . فهو ممّا جاء عَلى صيغة جمع التأنيث مع عدم التأنيث ولا علامَته مثل سرادقات وحمَّامات .
وجعله كثير من اللغويين جمع ( خَيْرَة ) بتخفيف الياء مُخفّف ( خَيِّرة ) المشدّد الياء التي هي أنثى ( خَيِّر ) ، أو هي مؤنّث ( خَيْر ) المخفّف الياء الذي هو بمعنى أخْير . وإنّما أنّثوا وصف المرأة منه لأنّهم لم يريدوا به التفضيل ، وعلى هذا كلّه يكون خيرات هنا مؤولاً بالخصال الخيّرة ، وكلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه مع استقامة الحمل على الظاهر . والمراد منافع الدنيا والآخرة . فاللام فيه للاستغراق . والقول في { وأولئك هم المفلحون كالقول في نظيره في أول سورة البقرة .