{ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } فهذه الأمور كلها ، قد تعلقت بها إرادة اللّه ، وجرت بها مشيئته ، { و } كذلك نريد أن { نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ } وزيره { وَجُنُودَهُمَا } التي بها صالوا وجالوا ، وعلوا وبغوا { مِنْهُمْ } أي : من هذه الطائفة المستضعفة . { مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } من إخراجهم من ديارهم ، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم ، وكسر شوكتهم ، وتقتيل أبنائهم ، الذين هم محل ذلك ، فكل هذا قد أراده اللّه ، وإذا أراد أمرا سهل أسبابه ، ونهج طرقه ، وهذا الأمر كذلك ، فإنه قدر وأجرى من الأسباب -التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه- ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود .
ثم بين - سبحانه - ما اقتضته إرادته وحكمته ، من تنفيذ وعيده فى القوم الظالمين ، مهما احتاطوا وحذروا ، ومن إنقاذه للمظلومين بعد أن أصابهم من الظلم ما أصابهم فقال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } .
وقوله { نَّمُنَّ } من المن بمعنى التفضل ، ومنه قوله - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين . . . } أى : لقد تفضل عليهم ، وأحسن إليهم .
وقوله : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } من التمكين ، وأصله : أن نجعل للشىء مكانا يستقر فيه ، ويحل به .
ثم استعير للتسليط وللحصول على القوة بعد الضعف ، وللعز بعد الذل .
وقوله : { يَحْذَرُونَ } من الحذر ، بمعنى الاحتراس والاحتراز من الوقوع فى الأمر المخيف . يقال : حذر فلان فلانا ، إذا خافه واحترس منه .
قال الشوكانى : والواو ، فى قوله { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } للعطف على جملة ، { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } لأن بينهما تناسبا من حيث إن كل واحدة منهما ، للتفسير والبيان للنبأ . ويجوز أن تكون حالا من فاعل { يَسْتَضْعِفُ } بتقدير مبتدأ . أى : ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض . . والأول أولى .
والمعنى : لقد طغا فرعون وبغى ، ونحن بإرادتنا وقدرتنا { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } ونتفضل على بنى إسرائيل ، الذين استضعفوا فى الأرض ، بأن ننجيهم من ظلمه ، وننقذهم من قهره وبغيه .
{ وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } للأرض المباركة ، التى نعطيهم إياها متى آمنوا وأصلحوا ، كما قال - تعالى - : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } وقوله - تعالى - : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } أى : ونجعلهم أقوياء راسخى الأقدام فى الأرض التى نورثهم إياها ، بعد القوم الظالمين .
{ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا } أى : ونطلع فرعون وهامان - وهو وزير فرعون - وجنودهما التابعين لهما { مِنْهُمْ } أى : من بنى إسرائيل المستضعفين فى الأرض { مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } أى ما كانوا يحاولون دفعه واتقاءه ، فقد كان فرعون وجنده يقتلون الذكور من بنى إسرائيل ، خوفا من ظهور غلام منهم يكون هلاك فرعون على يده .
قال ابن كثير : أراد فرعون بحوله وقوته ، أن ينجو من موسى . فما نفعه ذلك ، بل نفذ الله - تعالى - حكمه . بأن يكون إهلاك فرعون على يد موسى ، بل يكون هذا الغلام الذى احترزت من وجوده - يا فرعون - ، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان ، إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفى دارك . . . وهلاكك وهلاك جندك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا ، هو القاهر الغالب العظيم ، الذى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وهكذا تعلن السورة الكريمة فى مطلعها ، أن ما أراده الله - تعالى - لا بد أن يتم ، أمام أعين فرعون وجنده ، مهما احتاطوا ومهما احترسوا ، { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ }
وقوله : ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ يقول : ونوطيء لهم في أرض الشام ومصر . وَنُرِيَ فرْعَوْنَ وهامانَ وَجُنُودَهُمَا كانوا قد أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فكانوا من ذلك على وجل منهم ، ولذلك كان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فأرى الله فرعون وهامان وجنودهما من بني إسرائيل على يد موسى بن عمران نبيه ما كانوا يحذرونه منهم من هلاكهم وخراب منازلهم ودورهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ونُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ شيئا ما حذّر القوم ، قال : وذُكر لنا أن حازيا حزا لعدوّ الله فرعون ، فقال : يولد في هذا العام غلام من بني إسرائيل يسلبك ملكك ، فتتبّع أبناءهم ذلك العام ، يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم حذرا مما قال له الحازي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : كان لفرعون رجل ينظر له ويخبره ، يعني أنه كاهن ، فقال له : إنه يولد في هذا العام غلام يذهب بملككم ، فكان فرعون يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم حذرا ، فذلك قوله وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجنودهما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَنرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ بمعنى : ونرى نحن بالنون عطفا بذلك على قوله : ونُمَكّنَ لَهُمْ . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «وَيَرَى فِرْعَوْنُ » على أن الفعل لفرعون ، بمعنى : ويعاين فرعون ، بالياء من يرى ، ورفع فرعون وهامان والجنود .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فهو مصيب ، لأنه معلوم أن فرعون لم يكن ليرى من موسى ما رأى ، إلاّ بأن يريه الله عزّ وجلّ منه ، ولم يكن ليريه الله تعالى ذكره ذلك منه إلاّ رآه .
{ ونمكن لهم في الأرض } أرض مصر والشام ، وأصل التمكين أن تجعل للشيء مكانا يتمكن فيه ثم استعير للتسليط . وإطلاق الأمر . { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم } من بني إسرائيل { ما كانوا يحذرون } من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم . وقرأ حمزة والكسائي { ويري } بالياء و{ فرعون وهامان وجنودهما } بالرفع .
والتمكين لهم في الأرض تثبيت سلطانهم فيما ملكوه منها وهي أرض الشام إن كانت اللام عوضاً عن المضاف إليه . ويحتمل أن يكون المعنى تقويتهم بين أمم الأرض إن حمل التعريف على جنس الأرض المنحصر في فرد ، أو على العهد ، أي الأرض المعهودة للناس .
وأصل التمكين : الجعل في المكان ، وقد تقدم في قوله تعالى { إنا مكّنّا له في الأرض } في سورة [ الكهف : 84 ] ، وتقدم الكلام على اشتقاق التمكين وتصاريفه عند قوله تعالى { مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } في سورة [ الأنعام : 6 ] .
و { ما كانوا يحذرون } هو زوال ملكهم بسبب رجل من بني إسرائيل حسبما أنذره بذلك الكهان .
ومعنى إراءتهم ذلك إراءتهم مقدماته وأسبابه .
وفرعون الذي أُرِي ذلك هو ملك مصر ( منفتاح ) الثالث وهو الذي حكم مصر بعد ( رعمسيس ) الثاني الذي كانت ولادة موسى في زمانه وهو الذي كان يحذر ظهور رجل من إسرائيل يكون له شأن . و { هامان } قال المفسرون : هو وزير فرعون . وظاهر آيات هذه السورة يقتضي أنه وزير فرعون وأحسب أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب خطة مثل فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي . فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر . وجاء في كتاب « أستير » من كتب اليهود الملحقة بالتوراة تسمية وزير ( أحشويروش ) ملك الفرس ( هامان ) فظنوه علماً فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان واتخذوا هذا الظن مطعناً في هذه الآية . وهذا اشتباه منهم فإن الأعلام لا تنحصر وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بين أمم وخاصة الأمم المتجاورة ، فيجوز أن يكون { هامان } علماً من الأمان فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور ، ويجوز أن يكون لقب خطة في مصر فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد الفرس في مدة أسرهم .
ويشبه هذا الطعن طعن بعض المستشرقين من نصارى العصر في قوله تعالى في شأن مريم حين حكى قول أهلها لها { يا أخت هارون } [ مريم : 28 ] فقالوا : هذا وهم انجرّ من كون أبي مريم اسمه عمران فتوهم أن عمران هو أبو موسى الرسول عليه السلام ، وتبع ذلك توهم أن مريم أخت موسى وهارون وهو مجازفة فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم وهل يمتنع أن يكون مسمى على اسم أبي موسى وهارون وهل يمتنع أن يكون لمريم أخ اسمه هارون . وقد تكلمنا على ذلك في سورة مريم .
والجنود جمع الجند . ويطلق الجند على الأمة قال تعالى { هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود } [ البروج : 17 - 18 ] .
وقرأ الجمهور { ونُرِيَ } بنون العظمة ونصب الفعل ونصب { فرعونَ } وما عطف عليه . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { ويرى } بياء الغائب مفتوحة وفتح الراء على أنه مضارع رأى ورفع { فرعونُ } وما عطف عليه . ومآل معنى القراءتين واحد .
والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه : هو الجماعة من الناس التي تجتمع على أمر تتبعه ، فلذلك يطلق على العسكر لأن عملهم واحد وهو خدمة أميرهم وطاعته .