{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
وهذه دعوى أخرى منهم ، ومحاجة في رسل الله ، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين .
فرد الله عليهم بقوله : { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } فالله يقول : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وهم يقولون : بل كان يهوديا أو نصرانيا .
فإما أن يكونوا ، هم الصادقين العالمين ، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك ، فأحد الأمرين متعين لا محالة ، وصورة الجواب مبهم ، وهو في غاية الوضوح والبيان ، حتى إنه - من وضوحه - لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق ، ونحو ذلك ، لانجلائه لكل أحد ، كما إذا قيل : الليل أنور ، أم النهار ؟ والنار أحر أم الماء ؟ والشرك أحسن أم التوحيد ؟ ونحو ذلك .
وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك ، ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء ، لم يكونوا هودا ولا نصارى ، فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة ، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم . ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فهي شهادة عندهم ، مودعة من الله ، لا من الخلق ، فيقتضي الاهتمام بإقامتها ، فكتموها ، وأظهروا ضدها ، جمعوا بين كتم الحق ، وعدم النطق به ، وإظهار الباطل ، والدعوة إليه ، أليس هذا أعظم الظلم ؟ بلى والله ، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة ، فلهذا قال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل قد أحصى أعمالهم ، وعدها وادخر لهم جزاءها ، فبئس الجزاء جزاؤهم ، وبئست النار ، مثوى للظالمين ، وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة ، عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها .
فيفيد ذلك الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام ، أن الأمر الديني والجزائي ، أثر من آثارها ، وموجب من موجباتها ، وهي مقتضية له .
وبعد أن أبطل القرآن الكريم محاجة أهل الكتاب في دين الله بغير حق وأنكر عليهم ذلك ، عقبه بإبطال دعواهم أن أسلافهم من الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى فقال تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
وقوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ } حرف " أم " فيه معادل للهمزة في قوله تعالى في الآية السابقة
{ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } على أحد الوجوه بمعنى أي الأمرين تأتون ؟ المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين في هذه الآية والمراد من الاستفهام عنهما إنكارهما معاً ، إنكار حجاجهم في دين الله ، وإنكار قولهم إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى .
فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم : لا تجادلوننا في دين الله بغير حق ، ولا تقولوا إن الأنبياء كانوا على دينكم ، فإن مجادلتكم وأقوالكم من قبيل المزاعم الباطلة التي لا سند لها من عقل أو نقل .
وقوله تعالى : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } معناه قل لهم يا محمد إن زعموا أن الأنبياء المذكورين في الآية كانوا هودا أو نصارى : إن ما زعمتوه من أن إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هودا أو نصارى هو على خلاف ما يعلمه الله ، لأنه - سبحانه - قد أخبرنا بأنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية ، وأن يعقوب - عليه السلام - عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه بأن يموتوا على الإِسلام ، وأن التوراة والانجيل ما أنزلا إلا من بعد أولئك الأنبياء جميعا ، هكذا أخبرنا الله فهل أنتم أعلم بديانتهم أم الله ولا شك أنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم ، وإنما سيقولون الله أعلم ، فإذا لزمهم هذا القول : قلنا لهم إذا فدعواكم لا أساس لها من الصحة وبذلك تكون الجملة الكريمة قد قطعت حجتهم بأجمع بيان وأحكمه .
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } معناه لا أحد أشد ظلماً ممن يكتم شهادة ثبتت عنده عن الله ، تخبر بأن هؤلاء الأنبياء كانوا على الإِسلام ولم يكونوا هوداً أو نصارى .
قال فضيلة أستاذنا السيد محمد الخضر حسين - رحمه الله - ما ملخصه : ولما أنزل قوله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث . . . } إلى آخر الآية الكريمة ، كان من أهل الكتاب من آمن به وأخبر بما في كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته ، وكان منهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر في الكتابين . ولكنه يكابر ويقول : المقصود نبي لم يأت بعد وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابي التوراة والإِنجيل طائفة من أهل البحث والعلم في القديم والحديث ، وبينوا وجه انطباقها على حال النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأخذ الناظر الطالب للحق ريبة في أنه الرسول الذي بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته ، ومن هذه البشائر ما جاء في سفر التثنية من التوراة ( أقيم لهم من وسط إخواتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ) .
والنبي المماثل لموسى - عليه السلام - في الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإخوة بني إسرائيل هم العرب ، لأنهما يجتمعان في إبراهيم - عليه السلام - وقوله : " وأجعل كلامي في فمه ، يوافق حال النبي صلى الله عليه وسلم من الأمية وعدم تعاطي الكتابة " .
ثم ختمت الآية بالوعيد الشديد لهم على مزاعمهم الباطلة ، فقال تعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
الغفلة : السهو والنسيان ، والمراد أنه - سبحانه - محيط بأعمال هؤلاء الذين كتموا الحق ، لا تخفى عليه منها خافية وسيحاسبهم عليها حسابا عسيراً ، ويعاقبهم على مزاعمهم الباطلة عقاباً أليماً ، فالجملة الكريمة تهديد ووعيد لأهل الكتاب .
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىَ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }
قال أبو جعفر : في قراءة ذلك وجهان أحدهما : { أمْ تَقُولُونَ } بالتاء ، فمن قرأ كذلك فتأويله : قل يا محمد للقائلين لك من اليهود والنصارى «كونوا هودا أو نَصارى تهتدوا » : أتجادلوننا فِي اللّهِ أمْ تَقُولُونَ إن إبْرَاهِيم ؟ فيكون ذلك معطوفا على قوله :
{ أتُحاجّونَنَا في اللّهِ } . والوجه الاَخر منهما «أمْ يَقُولُونَ » بالياء . ومن قرأ ذلك كذلك وجه قوله : «أمْ يَقُولُونَ » إلى أنه استفهام مستأنف ، كقوله : أمْ يَقُولُونَ افتَرَاه وكما يقال : إنها لإبل أم شاء . وإنما جعله استفهاما مستأنفا لمجيء خبر مستأنف ، كما يقال : أتقوم أم يقوم أخوك ؟ فيصير قوله : «أم يقوم أخوك » خبرا مستأنفا لجملة ليست من الأول واستفهاما مبتدأ . ولو كان نسقا على الاستفهام الأوّل لكان خبرا عن الأوّل ، فقيل : أتقوم أم تقعد . وقد زعم بعض أهل العربية أن ذلك إذا قرىء كذلك بالياء ، فإن كان الذي بعد ( أم ) جملة تامة فهو عطف على الاستفهام الأول لأن معنى الكلام : قيل أيّ هذين الأمرين كائن ، هذا أم هذا ؟ .
والصواب من القراءة عندنا في ذلك : أمْ تَقُولُونَ بالتاء دون الياء عطفا على قوله : قُلْ أتُحاجّونَنَا بمعنى : أيّ هذين الأمرين تفعلون ؟ أتجادلوننا في دين الله ، فتزعمون أنكم أولى منا ، وأهدى منا سبيلاً ، وأمرنا وأمركم ما وصفنا على ما قد بيناه أيضا ، أم تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن سمى الله كانوا هودا أو نصارى على ملتكم ، فيصحّ للناس بَهْتكم وكذبكم لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه ، وغير جائزة قراءة ذلك بالياء لشذوذها عن قراءة القراء .
وهذه الآية أيضا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى الذين ذكر الله قصصهم . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى : أتحاجوننا في الله ، وتزعمون أن دينكم أفضل من ديننا ، وأنكم على هدى ونحن على ضلالة ببرهان من الله تعالى ذكره فتدعوننا إلى دينكم ؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى على دينكم ؟ فهاتوا على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك برهانا فنصدّقكم فإن الله قد جعلهم أئمة يقتدى بهم . ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد إن ادّعوا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى : أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان أم الله ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمَ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } .
يعني : فإن زَعَمَتْ يا محمد اليهودُ والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك كونوا هودا أو نصارى ، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ، فمن أظلم منهم ؟ يقول : وأيّ امرىء أظلم منهم وقد كتموا شهادة عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مسلمين ، فكتموا ذلك ونحلوهم اليهودية والنصرانية .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَمَنْ أظْلَمَ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } قال : في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى . فيقول الله : لا تكتموا مني شهادة إن كانت عندكم فيهم . وقد علم أنهم كاذبون .
حدثني المثنى قال : أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَمَنْ أَظْلَمَ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } ، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما إنهم كانوا يهودا أو نصارى . فقال الله لهم : لا تكتموا مني الشهادة فيهم إن كانت عندكم فيهم . وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني إسحاق ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن أنه تلا هذه الآية : { أمْ تَقُولُونَ إنْ إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ } إلى قوله : { قُلْ أأنْتُمْ أعْلَم أمِ الله وَمَنْ أظْلَمَ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله } قال الحسن : والله لقد كان عند القوم من الله شهادة أن أنبياء بُرآء من اليهودية والنصرانية ، كما أن عند القوم من الله شهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام ، فبم استحلوها ؟ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَمَنْ أظْلَمَ مِمنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } : أهل الكتاب ، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل : أنهم لم يكونوا يهود ولا نصارى ، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان . وأنه عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارى إن ادّعوا أن إبراهيم ومن سُمي معه في هذه الآية كانوا هودا أو نصارى ، تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم كذبهم وادّعاءهم على أنبياء الله الباطلَ لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم ، وإن هم نفوا عنهم اليهودية والنصرانية ، قيل لهم : فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين ، فإنّا وأنتم مقرّون جميعا بأنهم كانوا على حقّ ، ونحن مختلفون فيما خالف الدين الذي كانوا عليه .
وقال آخرون : بل عنى تعالى ذكره بقوله : { وَمَنْ أظْلَمَ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } : اليهود في كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أمْ تَقُولُونَ إنّ إبْرَاهِيمَ وإسمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْباطَ كانُوا هُودا أوْ نَصَارَى } أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، وكتموا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عنْدَهُ مِنَ اللّهِ قال : الشهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم ، وهو الذي كتموا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحو حديث بشر بن معاذ عن يزيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّهِ } قال : هم يهودُ يسألون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم ، فيكتمون الصفة .
وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك لأن قوله تعالى ذكره : { وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ الله } في أثر قصة من سمى الله من أنبيائه ، وأمام قصته لهم . فأولى بالذي هو بين ذلك أن يكون من قصصهم دون غيره .
فإن قال قائل : وأية شهادة عند اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ؟ قيل : الشهادة التي عندهم من الله في أمرهم ، ما أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل ، وأمرهم فيها بالاستنان بسنّتهم واتباع ملتهم ، وأنهم كانوا حنفاء مسلمين . وهي الشهادة التي عندهم من الله التي كتموها حين دعاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا له : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقالوا له ولأصحابه : كُونوا هودا أو نصارى تهتدوا . فأنزل الله فيهم هذه الاَيات في تكذيبهم وكتمانهم الحقّ ، وافترائهم على أنبياء الله الباطل والزور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : وقل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين يحاجونك يا محمد : { وَما اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ } من كتمانكم الحقّ فيما ألزمكم في كتابه بيانه للناس ، من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط في أمر الإسلام ، وأنهم كانوا مسلمين ، وأن الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينونة به دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل . ولا هو ساهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك ، بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهل في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة . فجازاهم عاجلاً في الدنيا بقتل بعضهم وإجلائه عن وطنه وداره ، وهو مجازيهم في الاَخرة العذابَ المهين .
{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } أم منقطعة والهمزة للإنكار . وعلى قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في { أتحاجوننا } ، بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة ، أو ادعاء اليهودية ، أو النصرانية على الأنبياء . { قل أأنتم أعلم أم الله } وقد نفي الأمرين عن إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } واحتج عليه بقوله : { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } . وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا . { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية ، والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب ، لأنهم كتموا هذه الشهادة . أو منا لو كتمنا هذه الشهادة ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة في كتبهم وغيرها ، ومن للابتداء كما في قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله } . { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد لهم وقرئ بالياء .
{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( 140 )
وقوله تعالى : { أم تقولون } عطف على ألف الاستفهام المتقدمة( {[1327]} ) ، وهذه القراءة بالتاء من فوق قرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم «أم يقولون » بالياء من أسفل ، و { أم } على هذه القراءة مقطوعة ، ذكره الطبري ، وحكي عن بعض النحاة أنها ليست بمقطوعة لأنك إذا قلت أتقوم أم يقوم عمرو ؟ فالمعنى أيكون هذا أم هذا ؟ .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا المثال غير جيد ، لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غيران ، وإنما تتجه معادلة { أم } للألف على الحكم المعنوي كأن معنى { قل أتحاجوننا } أي أيحاجون يا محمد أم يقولون ، وقيل أن { أم } في هذا الموضع غير معادلة على القراءتين ، وحجة ذلك اختلاف معنى الآيتين وإنهما ليسا قسمين ، بل المحاجة موجودة في دعواهم الأنبياء عليهم السلام ، ووقفهم( {[1328]} ) تعالى على موضع الانقطاع في الحجة ، لأنهم إن قالوا إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية كذبوا ، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا بعدهم ، وإن قالوا لم يكونوا على اليهودية النصرانية قيل لهم فهلموا إلى دينهم إذ تقرون بالحق .
وقله تعالى : { قل أأنتم أعلم أم الله } تقرير على فساد دعواهم إذ لا جواب لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم ، و { من أظلم } لفظه الاستفهام والمعنى لا أحد أظلم منهم ، وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة .
واختلف في الشهادة هنا ما هي ؟ فقال مجاهد والحسن والربيع : هي ما في كتبهم من أن الأنبياء على الحنيفية لا على ما ادعوا هم ، وقال قتادة وابن زيد : هي ما عندهم من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه ، والأول أِشبه بسياق معنى الآية ، واستودعهم الله تعالى هذه الشهادة ولذلك قال : { من الله } ، ف { من } على هذا متعلقة ب { عنده }( {[1329]} ) ، كأن المعنى شهادة تحصلت له من الله ، ويحتمل أن تتعلق { من } ب { كتم } ، أي كتمها من الله .
وقوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } ، وعيد وإعلام أنه لا يترك أمرهم سدى ، وأن أعمالهم تحصى( {[1330]} ) ويجازون عليها ، والغافل الذي لا يفطن للأمور إهمالاً منه ، مأخوذ من الأرض الغفل ، وهي التي لا معلم بها( {[1331]} ) .