إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَمۡ تَقُولُونَ إِنَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ قُلۡ ءَأَنتُمۡ أَعۡلَمُ أَمِ ٱللَّهُۗ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَٰدَةً عِندَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (140)

وكلمة ( أم ) في قوله تعالى : { أَمْ تَقُولُونَ } إما معادلة للهمزة في قوله تعالى : { أَتُحَاجُّونَنَا } [ البقرة ، الآية : 139 ] داخلةٌ في حيز الأمر على معنى أيَّ الأمرين تأتون إقامةَ الحجة وتنويرَ البرهان على حقية ما أنتم عليه - والحال ما ذكر - أم التشبّثَ بذيل التقليد والافتراءِ على الأنبياء وتقولون :

{ إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى } فنحن بهم مقتدون والمرادُ إنكارُ كِلا الأمرين والتوبيخُ عليهما ، وإما منقطعةٌ مقدرةٌ ببل والهمزة دالةٌ على الإضراب والانتقالِ من التوبيخِ على المُحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وقرئ أم يقولون على صيغة الغَيْبة فهي منقطعةٌ لا غير ، غيرُ داخلةٍ تحت الأمر واردةٌ من جهته تعالى توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل .

هذا ، وأما ما قيل من أن المعنى أتحاجوننا في شأن الله واصطفائِه نبياً من العرب دونكم ؟ لما رُوي أن أهلَ الكتاب قالوا الأنبياءُ كلُهم منا فلو كنت نبياً لكنت منا فنزلت . ومعنى قوله تعالى : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم } [ البقرة ، الآية 139 ] أنه لا اختصاصَ له تعالى بقوم دون قومٍ يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعدُ أن يكرِمنا كما أكرمَكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحاماً وتبكيتاً ، فإن كرامة النبوة إما تفضلٌ من الله تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء ، وإما إفاضةُ حقَ على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتخلِّي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضاً أعمالٌ ونحن له مخلصون أي لا أنتم ، فمَعَ عدم ملاءمتِه لسياق النظم الكريم ولاسيما على تقدير كونِ كلمةِ أم معادلةً للهمزة غيرُ صحيح في نفسه لما أن المرادَ بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ، ولا ريب في أن أمرَ الصلاحِ والسوءِ يدورُ على موافقة الدين المبنيِّ على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبارُ تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادِها المتقدم على البعثة بمراتِبَ { قُلْ أأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } إعادةُ الأمر ليس لمجرد تأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلاً بما قبله بل بينهما كلامٌ للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبِعٌ لما أنه الحقُّ قد أُضرب عنه الذكرُ صفحاً لظهوره وهو تصريحُهم بما وُبِّخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم السلام كما في قوله عز وجل قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضالون ، قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } [ سورة الحجر ، الآية 56 و57 ] وقولِه عز قائلاً : { قَالَ أَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ على }

[ الإسراء ، الآية 61 و62 ] فإن تكريرَ قال في الموضعين وتوسيطَه بين قولي قائلٍ واحد للإيذان بأن بينهما كلاماً لصاحبه متعلقاً بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حُرر في محله أي كذِبُهم في ذلك ونُكثُهم قائلاً : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون وقد نَفَى عن إبراهيم عليه السلام كلا الأمرين حيث قال : { مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيا وَلاَ نَصْرَانِيا } [ آل عمران ، الآية 67 ] واحتُج عليه بقوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ } [ آل عمران ، الآية : 65 ] وهؤلاء المعطوفون عليه السلام أتباعُه في الدين وِفاقاً فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون { وَمَنْ أَظْلَمُ } إنكارٌ لأن يكون أحدٌ أظلم { مِمَّنْ كَتَمَ شهادة } ثابتة { عِندَهُ } كائنة { مِنَ الله } وهي شهادتُه تعالى له عليه السلام بالحنيفية والبراءةِ من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفاً ، فعنده صفةٌ لشهادة وكذا ( من الله ) جيء بهما لتعليل الإنكار وتأكيدِه فإن ثبوتَ الشهادةِ عنده وكونَها من جانب الله عز وجل من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشدِّ الزواجر عن كِتمانها ، وتقديمُ الأول مع أنه متأخرٌ في الوجود لمراعاة طريقةِ الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، والمعنى أنه لا أحدَ أظلمُ من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادةَ وأثبتوا نقيضَها بما ذُكر من الافتراء ، وتعليقُ الأظلمية بمُطلق الكِتمان للإيماء إلى أن مرتبةَ مَنْ يردُّها ويشهد بخلافها في الظلم خارجةٌ عن دائرة البيان أو لا أحدَ أظلمُ منا لو كتمناها ، فالمرادُ بكتمها عدمُ إقامتها في مقامِ المُحاجة ، وفيه تعريضٌ بغاية أظلمية أهلِ الكتابِ على نحو ما أشير إليه ، وفي إطلاق الشهادة مع أن المرادَ بها ما ذكر من الشهادة المعينةِ تعريضٌ بكتمانها شهادةَ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من فنون السيئاتِ فيدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم السلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبُكم بذلك أشدَّ عقاب ، وقرئ ( عما يعملون ) على صيغة الغَيْبة فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى ، وإما لأهلِ الكتاب ، وقولُه تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ } [ البقرة ، الآية : 114 ] إلى آخر الآية ، مسوقٌ من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلمِ وتهديدِهم بالوعيد .