قال القرطبي رحمه الله : وجمع إسحاق : أساحيق .
وحكى الكوفيون : أساحقة ، وأساحق ؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب .
قال النحاس رحمه الله : فأما إسرائيل فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوّله ، وإنما يقال : " أساريل " .
وحكى الكوفيون " أسارلة " ، و " أسارل " . والباب في هذا كله أن يجمع مسلَّماً فيقال : " إبراهيمون " ، و " إسحاقون " ، و " يعقوبون " ، والمسلَّم لا عمل فيه .
قال القرطبي رحمه الله تعالى وقوله تعالى :{ أَمْ تَقُولُونَ } : قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وابن عامر بتاء الخطاب ، والباقون بالياء .
فأما قراءة الخطاب ، فتحتمل " أم " فيها وجهين :
أحدهما : أن تكون المتّصلة ، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله :{ أَتُحَاجُّونَنَا }فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المُحَاجَّة في الله ، أو ادعاء على إبراهيم ، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم ، فإنّ كلا الأمرين باطلٌ .
قال ابن الخَطِيبِ : إن كانت متّصلة تقديره : بأي الحُجّتين تتعلّقون في أمرنا ؟
أَبِالتَّوْحِيدِ فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون ؟
والثاني : أن تكون المنقطعة ، فتتقدر ب " بل " والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب .
والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضاً فيكون قد انتقل عن قوله : أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى ، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكر معه ، [ كأنه قيل : أتقولون : إن الأنبياء عليهم السلام كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى ] .
وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن " أم " فيها منقطعة على المعنى المتقدم ، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة ؛ لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو ؛ أيكون هذا أم هذا ، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال : هذا المثال غير جيّد ؛ لأن القائل غير واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غيران ، وإنما تتّجه معادلة " أم " للألف على الحكم المعنوي ، كأن معنى قل : أتحاجوننا : " أيحاجون يا محمد أم تقولون " .
وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلاَّ منقطعة .
قال أبو حيان رحمه الله تعالى : ويمكن الاتصال مع قراءة الياء ، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين .
وقال أبو البقاء : أم تقولون يقرأ بالياء ردًّا على قوله : " فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ " ، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله : " فَسَيَكْفِيكَهُم " ، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله :{ فسيكفيكهم } إلى قوله :{ أم يقولون }حتى يجعله ردّاً عليه ، وهو بعيد عنه لفظاً ومعنى .
وقال أبو حيان : الأحسن في القراءتين أن تكون " أم " منقطعة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ، ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 65 ] الآيات .
وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معاً .
وهذا الذي قاله الشيخ حَسَن جداً .
و " أو " في قوله : " هُوداً أو نصارى " كهي في قوله : { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدم تحقيقه .
قوله تعالى : { قُلْ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } .
معناه : أن الله أعلم ، وَخَبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل ، وفي القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية .
فإن قيل : إنما يقال هذا فيمن لا يعلم ، وهم علموه وكتموه ، فكيف يصح الكلام ؟
فالجواب : من قال : إنهم كانوا على ظَنّ وتوهم ، فالكلام ظاهر ، ومن قال : علموا وجحدوا ، فمعناه : أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به ، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم .
[ و " أم " في قوله تعالى : " أم الله " متصلة ، والجلالة ، عطف على " أنتم " ، ولكنه فصل بين المتعاطفين بالمسؤول عنه ، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة ؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثلاثة أوجه : تقدم المسؤول عنه نحو قوله :{ أأعلم أم الله } ، وتوسطه نحو{ أأنتم أعلم أم الله } ، وتأخيره نحو : أأنتم أم الله أعلم .
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى :{ أم الله }مبتدأ ، والخبر محذوف أي : أم الله أعلم ، و " أم " هنا متصلة ، أي : ربكم أعلم ، وفيه نظر ؛ لأنه إذا قدر له خبراً صناعياً صار جملة ، و " أم " المتصلة لا تعطف الجمل ، بل المفرد وما في معناه . وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى ، فيغتفر له ذلك ، بل تفسير إعراب ، والتفصيل في قوله :{ أعلم }على سبيل الاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، فيكون من الجهلة ، وإلا فلا مشاركة ، ونظيره قول حسان : [ الوافر ]
820- أَتهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ *** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
وقد علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام خير الكل ] .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ } .
في " من " من قوله :{ مِنَ اللهِ }أربعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة ب " كتم " ، وذلك على حذف مضاف أي : كتم من عباد الله شهادة عنده .
الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة ؛ لأن " عنده " صفة لشهادة ، وهو ظاهر قول الزمخشري رحمه الله ، فإنه قال : و " من " في قوله :{ شَهَادَةً مِنَ اللهِ }مثلها في قولك : " هذه شهادة مني لفلان " إذا شهدت له ، ومثله : { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] .
الثالث : أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في " عنده " يعني : من الضمير المرفوع بالظَّرف لوقوعه صفة ، ذكره أبو البقاء رحمه الله تعالى .
الرابع : أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف ، وهو " عنده " لوقوعه صفة ، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تعلق " من " بشهادة لئلاّ يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني : أن " شهادة " مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل ، فلو عَلّقت " مِنْ " بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول ، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي ، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة .
أحدهما : لا نسلم أن " شهادة " ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما .
والثاني : سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة ، بل هو معمول لها ، فيكون بعض الصلة أجنبيًّا حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته ، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر ، وهو أن المعنى يأبى ذلك .
و{ كتم }يتعدّى لاثنين ، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره : كتم النَّاس شهادةً ، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون " من الله " صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب " كتم " ، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستودعة من الله عنده أبلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله .
وقال في " ري الظمآن " : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك : " ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة " ، والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك .
قال أبو حيان : وهذا متكلّف جدّاً من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول . أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضَّرائر عند الجمهور .
وأيضاً فيبقى قوله :{ مِمَّنْ كَتَمَ }متعلقاً : إما ب " أظلم " ، فيكون ذلك على طريق البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص ، وليس بثابت ، وإن كان بعضهم زعم وروده ، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص ، أو تكون " من " متعلقة بمحذوف ، فتكون في موضع الحال ، أي : كائناً من الكاتمين .
وإمّا من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جُرَّ ب " من " يكون على تقدير ، أي : إن كتمها فلا أحد أظلم منه ، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه .
قوله تعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سُدى ، وأنه يجازيهم على أعمالهم .
والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالاً منه ؛ مأخوذ من الأرض الغُفْل ، وهي التي لا عَلَم لها ولا أثر عمارة .
ورجل غُفْل : لم يجرب الأمور . وقال الكسائي : " أرض غُفل لم تمطر " ، غفلت عن الشيء غَفْلَةً وغُفُولَةً ، وأغفلت الشيء : تركته على ما ذكر منك .
فإن قيل : ما الحكمة في عدوله عن قوله : " وَاللهُ عَلِيمٌ " إلى { وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ } .
فالجواب : أن نفي النقائص وسلبها عن صفات الله تعالى أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها ، فإن نفي النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة ، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض ؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض ، فلما قال الله تعالى : { وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ } دلّ ذلك على أنه عالم ، وعلى أنه غير غافل ، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية .
فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ يوسف : 19 ] .
فالجواب : أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر ، بخلاف هذه الآية ، فإن المقصود بها الزجر والتهديد .