{ 13 - 17 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم ، ذكر منتهى ما وصلت بهم الحال مع قومهم فقال : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ } متوعدين لهم { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وهذا أبلغ ما يكون من الرد ، وليس بعد هذا فيهم مطمع ، لأنه ما كفاهم أن أعرضوا عن الهدى بل توعدوهم بالإخراج من ديارهم ونسبوها إلى أنفسهم وزعموا أن الرسل لا حق لهم فيها ، وهذا من أعظم الظلم ، فإن الله أخرج عباده إلى الأرض ، وأمرهم بعبادته ، وسخر لهم الأرض وما عليها يستعينون بها على عبادته .
فمن استعان بذلك على عبادة الله حل له ذلك وخرج من التبعة ، ومن استعان بذلك على الكفر وأنواع المعاصي ، لم يكن ذلك خالصا له ، ولم يحل له ، فعلم أن أعداء الرسل في الحقيقة ليس لهم شيء من الأرض التي توعدوا الرسل بإخراجهم منها . وإن رجعنا إلى مجرد العادة فإن الرسل من جملة أهل بلادهم ، وأفراد منهم ، فلأي شيء يمنعونهم حقا لهم صريحا واضحا ؟ ! هل هذا إلا من عدم الدين والمروءة بالكلية ؟
ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل إلى هذه الحال ما بقي حينئذ إلا أن يمضي الله أمره ، وينصر أولياءه ، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } بأنواع العقوبات .
ثم حكت السورة بعد ذلك جانبا آخر من تلك المحاورات التى دارت بين الرسل وبين أعدائهم ، وجانبا مما وعد الله به رسله - عليهم السلام - وجانبا من العذاب الذى أعده للظالمين فقال - تعالى - :
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ . . . }
قوله - سبحانه - : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا . . . } حكاية لما هدد به رءوس الكفر رسلهم ، بعد أن أفحمهم الرسل بالحجة البالغة ، وبالمنطق الحكيم .
واللام فى { لنخرجكم } هى الموطئة للقسم . و " أو " للتخيير بين الأمرين .
أى : وقال الذين عنوا فى الكفر - على سبيل التهديد - لرسلهم ، الذين جاءوا لهدايتهم ، والله لنخرجنكم - أيها الرسل - من أرضنا ، أو لتعودن فى ديننا وملتنا .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الأنبياء - عليهم السلام - أنهم قد اكتفوا فى دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه ، والاعتماد على حفظه وحياطته ، حكى عن الكفار أنهم بالغوا فى السفاهة وقالوا للأنبياء ولنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن فى ملتنا " .
والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة ، إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا .
والسبب فيه أن أهل الحق فى كل زمان يكونون قليلين . وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعارضدين ، فلهذا الأسباب قدروا على هذه السفاهة .
والتعبير بقوله - سبحانه - { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } يفيد بظاهرة أن الرسل كانوا على ملة الكافرين ثم تركوها ، فإن العود معناه : الرجوع إلى الشئ بعد مفارقته . وهذا محال ، فإن الأنبياء معصومون - حتى قبل النبوة - عن ارتكاب الكبائر ، فضلاً عن الشرك .
وقد أجيب عن ذلك بإجابات منها :
أن الخطاب وإن كان فى الظاهر مع الرسل ، إلا أن المقصود به أتباعهم المؤمنون ، الذين كانوا قبل الإِيمن بالرسل على دين أقوامهم ، فكأنهم يقولون لهؤلاء الاتباع : لقد كنتم على ملتنا ثم تركتموها ، فإما أن تعودوا إليها وإما أن تخرجوا من ديارنا ، إلا أن رءوس الكفر وجهوا الخطاب إلى الرسل من باب التغليب .
ومنها : أن العود عنا بمعنى الصيرورة ، إذ كثيراً ما يرد " عاد " بمعنى صار ، فيعمل عمل كان ، ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، لنخرجنكم من أرضنا أو لتصيرن كفاراً مثلنا .
ومنها : أن هذا القول من الكفار جار على توهمهم وظنهم ، أن الرسل كانت قبل دعوى النبوة على ملتهم ، لسكوتهم قبل البعثة عن الإِنكار عليهم ، فلهذا التوهم قالوا ما قالوا ، وهم كاذبون فيما قالوه .
وشبيه بهذه الآية قول قوم شعيب - عليه السلام - له { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا . . . } وقول قوم لوط له { أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } وقوله - سبحانه - { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } الذين هددوكم بالإِخراج من الديار ، أو بالعودة إلى ملتهم
{ وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } .
( شا يقول عزّ ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وفراق عبادة الاَلهة والأوثان : لَنُخْرِجَنّكُمْ مِنْ أرْضِنا يعنون : من بلادنا ، فنطردكم عنها . أوْ لَتَعُودُنّ في ملّتِنا يعنون : إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام . وأدخلت في قوله : لَتَعُودُنّ لام ، وهو في معنى شرط ، كأنه جواب لليمين .
وإنما معنى الكلام : لنحرجنّكم من أرضنا أو تعودنّ في ملتنا ، ومعنى «أو » ههنا معنى «إلا » أو معنى «حتى » كما يقال في الكلام : لأضربنك أو تقرّ لي ، فمن العرب من يجعل ما بعد «أو » في مثل هذا الموضع عطفا على ما قبله ، إن كان ما قبله جزما جزموه ، وإن كان نصبا نصبوه ، وإن كان فيه لام جعلوا فيه لاما ، إذ كانت «أو » حرف نَسق . ومنهم من ينصب «ما » بعد «أو » بكل حال ، ليعلم بنصبه أنه عن الأوّل منقطع عما قبله ، كما قال امرؤ القيس :
بَكَى صَاحِبي لَمّا رأى الدّرْبَ دُونَهُ *** وأيْقَنَ أنّا لاحِقانِ بقَيْصَرَا
فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّما *** نحاوِلُ مُلْكا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
فنصب «نموتَ فنعذرا » وقد رفع «نحاولُ » ، لأنه أراد معنى : إلا أن نموت ، أو حتى نموت ، ومنه قول الاَخر :
لا أسْتَطِيعُ نُزُوعا عَنْ مَوَدّتِها *** أو يَصْنَعُ الحُبّ بي غيرَ الّذِي صَنَعا
وقوله : فَأَوحَى إلَيْهِمْ رَبّهُمْ لَنُهْلِكَنّ الظّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكُفرهم وقد يجوز أن يكون قيل لهم : الظالمون لعبادتهم ، مَنْ لا تجوز عبادته من الأوثان والاَلهة ، فيكون بوضعهم العبادة في غير موضعها إذ كان ظلما سُموا بذلك ظالمين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.