فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } يعني النبوّة ، أو ما هو أعمّ منها ، والاستفهام للإنكار . ثم بيّن أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدنيا } ، ولم نفوّض ذلك إليهم ، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده ، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ، ورفع درجات بعضهم على بعض ، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوّة ، وتفويضها إلى من يشاء من خلقه . قال مقاتل : يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة ، فيضعونها حيث شاءوا ؟ قرأ الجمهور { معيشتهم } بالإفراد ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن " معايشهم " بالجمع ومعنى { رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } أنه فاضل بينهم ، فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق ، والرياسة ، والقوّة ، والحرية ، والعقل ، والعلم ، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض ، فقال : { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي ليستخدم بعضهم بعضاً ، فيستخدم الغنيّ الفقير ، والرئيس المرؤوس ، والقويّ الضعيف ، والحرّ العبد ، والعاقل من هو دونه في العقل ، والعالم الجاهل ، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا ، وبه تتمّ مصالحهم ، وينتظم معاشهم ، ويصل كلّ واحد منهم إلى مطلوبه ، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين ، فجعل البعض محتاجاً إلى البعض ، لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ، ويحتاج هذا إلى هذا ، ويصنع هذا لهذا ، ويعطي هذا هذا . قال السدّي وابن زيد : { سخرنا } خولا وخدما ، يسخر الأغنياء الفقراء ، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض . وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضاً ، وقيل : هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء ، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي ، ولكنه بعيد من معنى القرآن ، ومنافٍ لما هو مقصود السياق { وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني بالرحمة : ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة ، وقيل هي النبوّة لأنها المراد بالرحمة المتقدّمة في قوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } ولا مانع من أن يراد كلّ ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً ، ومعنى { مّمَّا يَجْمَعُونَ } ما يجمعونه من الأموال ، وسائر متاع الدنيا .

/خ35