دساها : التدسية : النقص والإخفاء .
9 ، 10- قد أفلح من زكّاها* وقد خاب من دسّاها .
هناك رأيان في تفسير هذه الآية :
الرأي الأول : إنها جواب القسم ، أي : أقسم بالشمس والقمر ، والنهار والليل ، والسماء والأرض والنفس ، لقد أفلح من زكّى نفسه وطهّرها ، وسما بها إلى الخير ، وحبسها عن الشر ، فأطاع الله والتزم بالصيام والصلاة وسائر الطاعات ، وابتعد عن الخمر والربا والزنا وسائر المحرمات ، ولقد خاب من غمس نفسه في الشهوات والملذات وسائر المعاصي ، فهبط بنفسه إلى الحضيض .
ومعنى : دسّاها . نقصها وغمسها وأخفاها بالفجور ، لقد أذل نفسه بالفجور ، وسترها بالمعاصي ، فعجزت عن التّطلع إلى الملأ الأعلى ، وارتكست في أنواع الشهوة والشرور ، أي أن بيد الإنسان أن يسمو بنفسه إلى الخير ، وأن يهبط بها في مستنقع الرذيلة ، والله تعالى يقسم بمخلوقاته وبمن خلقها وهو الله عز وجل ، على أن الفلاح لمن زكّى نفسه وطهرها ، وأن الخيبة لمن دسّى نفسه ، وحجبها عن الطهر والنور والتعلق بجلال الله العلي الكبير .
الرأي الثاني : هذه الآية ليست جواب القسم ، وإنما ذكرت استطرادا للقسم بالنفس وبمن سوّاها ، وجواب القسم محذوف ، دل عليه ما بعده وهو : كذّبت ثمود بطغواها . إلى آخر السورة .
وتقدير الجواب : لتبعثنّ ، أو لتكافؤنّ على الإحسان إحسانا ، وعلى السوء سوءا ، أو ليدمدمنّ الله على الظالمين في الدنيا ، وليعاقبنّهم يوم القيامة ، كما فعل بثمود حين عقرت الناقة وعتت عن أمر ربها .
وفي القسم بهذه الكائنات حثّ للإنسان على التأمل في هذا الكون ، والتطلع إلى بديع صنع الله في خلق الشمس والقمر ، والليل والنهار ، والسماء والأرض والنفس .
{ وقد خاب من دساها } أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها . وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عز وجل ، { وقد خاب من دساها } أهلكها وأضلها وحملها على المعصية ، فجعل الفعل للنفس . و{ دساها } أصله : دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت السين الثانية ياءً . والمعنى ها هنا : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا محمد بن محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربردي ، حدثنا أحمد بن حرب ، حدثنا أبو معاوية عن عاصم ، عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث ، عن زيد بن أرقم قال : " لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهرم وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقد خاب في طِلبته ، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح "مَنْ دسّاهَا" يعني : من دَسّس الله نفسه فأهْملها ، ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ ، وترك طاعة الله ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما : على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه . الثاني : من دسّى نفسه . وفي " دسّاها " سبعة تأويلات : أحدها : أغواها وأضلها ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، لأنه دسّى نفسه في المعاصي ....
الثاني : إثمها وفجورها ، قاله قتادة .
الرابع : كذبها ، قاله ابن عباس .
الخامس : أشقاها ، قاله ابن سلام ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوئ الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخفى نفسه الكريمة ، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ، بالتدنس بالرذائل ، والدنو من العيوب ، والاقتراف للذنوب ، وترك ما يكملها وينميها ، واستعمال ما يشينها ويدسيها . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) . .
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
" وقد خاب من دساها " أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية . وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها وأغواها . وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، وصالح الأعمال ، وخاب من دس نفسه في المعاصي . قاله قتادة وغيره . وأصل الزكاة : النمو والزيادة ، ومنه زكا الزرع : إذا كثر ريعه ، ومنه تزكية القاضي للشاهد ؛ لأنه يرفعه بالتعديل ، وذكر الجميل . وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة " البقرة " {[16096]} مستوفى . فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر ، شهر نفسه ورفعها . وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض ، ليشتهر مكانها للمعتفين{[16097]} ، وتوقد النار في الليل للطارقين . وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام{[16098]} ، ليخفى مكانها عن الطالبين . فأولئك علوا أنفسهم وزكوها ، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها . وكذا الفاجر أبدا خفي المكان ، زمر{[16099]} المروءة غامض الشخص ، ناكس الرأس بركوب المعاصي . وقيل : دساها : أغواها . قال :
وأنتَ الذي دَسَّيْتَ عَمْراً فأصبحت *** حلائلُه منه أراملَ ضُيِّعَا{[16100]}
قال أهل اللغة : والأصل : دسسها ، من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت سينه ياء ، كما يقال : قصيت أظفاري ، وأصله قصصت أظفاري . ومثله قولهم في تقضض : تقضي . وقال ابن الأعرابي : " وقد خاب من دساها " أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم .
{ وقد خاب } أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها * } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوىء الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ، وأصل " دسى " دسس ، فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف ، وقمره أن لا يخسف ، ونهاره أن لا يتكدر ، وليله ألا يطفى ، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه ، ويخسف قمره ، ويتكدر نهاره ، ويدوم ليله ، وطرق ذلك اعتبار نظائر المذكورات من الروحانيات وإعطاء كل ذي حق حقه ، فنظير الشمس هي النبوة لأنها كلها ضياء باهر وصفاء قاهر ، وضحاها الرسالة وقمرها الولاية ، والنهار هو العرفان ، والليل عدم طمأنينة النفس بذكر الله وما جاء من عنده ، وإعراضها عن الانقياد لقبول ما جاء من النبوة أو الولاية ، والعلماء العاملون هم أولياء الله ، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما : إن لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي - رواه عنهما الحافظ أبو بكر الخطيب ، وهو مذكور في التبيان وغيره من مصنفات النووي ، ونظير السماء العزة والترفع عن الشهوات وعن خطوات الشياطين من الإنس والجن ، والأرض نظيرها التواضع لحق الله ولرسوله وللمؤمنين فيكون بإخراجه المنافع لهم كالأرض المخرجة لنباتها ، والتدسية خلاف ذلك ، من عمل بالسوء فقد هضم نفسه وحقرها فأخفاها كما أن اللئام ينزلون بطون الأودية ومقاطعها بحيث تخفى أماكنهم على الطارقين ، والأجواد ينزلون الروابي ، ويوقدون النيران للطارقين ، ويشهرون أماكنهم للمضيفين منازل الأشراف في الأطراف كما قيل :