تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة الحشر

( سورة الحشر مدنية ، وآياتها 24 آية ، نزلت بعد سورة البينة )

وقد نزلت في بداية السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب ، وهي تحكي قصة غزوة بني النضير ، ولكنها على طريقة القرآن تحكي أحداث الغزوة وما صاحب هذه الأحداث ، وتربي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان ، وبذلك يكون القصص هادفا ، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها ، ومعرفة حكم الله فيها واستنباط العظة والعبرة منها .

والقرآن الكريم فيه القصة ، وفيه أحداث التاريخ ، وفيه العظة والعبرة ، وفيه الحكم والتشريع ، وفيه التهذيب والتربية ، وقد استطاع أن يمزج ذلك كله بطريقته الخاصة ، ليصل به إلى قلب المؤمن ، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة ، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة .

قال تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . . . ( آل عمران : 110 ) .

غزوة بني النضيرi

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومعه رسالته الهادية ، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار ، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرية الأديان ، وعلى المعايشة السلمية في المدينة ، وعلى ألا يكون اليهود عليه ولا له .

" وكان يهود بني النضير حلفاء الخزرج ، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الآخر " ii ، ولكن بني النضير لم يوفوا بهذه العهود حسدا منهم وبغيا ، فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة من أصحابه إلى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين ، بحكم ما بينه وبينهم من عهود ، فاستقبله زعماء اليهود بالبشر والترحاب ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبرون أمرا لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . وكان صلى الله عليه وسلم جالسا إلى جدار من بيوتهم فقال بعضهم لبعض : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه ؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب ، أنا لذلك ، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله ، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم ، فقام كأنما ليقضي أمرا ، فلما غاب استبطأه منه معه ، فخرجوا من المحلة يسألون عنه فعلموا أنه دخل المدينة .

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحرب بني النضير لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم ، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف – من بني النضير – في هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قيل من أن كعبا ورهطا من بني النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ، مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف فقتله . ولما كان التبييت للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم في محلة بني النضير ، فلم يبق مفر من نبذ عهدهم إليهم .

ثم أرسل النبي إليهم محمد بن مسلمة ليقول لهم : اخرجوا من بلادي لقاء ما هممتم به من الغدر .

وتجهز الرسول لقتال بني النضير وحاصر محلتهم ، وأمهلهم ثلاثة أيام – وقيل عشرة – ليفارقوا المدينة على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم .

وتهيأ بنو النضير للرحيل ، ولكن المنافقين في المدينة أرسلوا إليهم يحرضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم : لا تخرجوا من دياركم ، وتمنعوا في حصونكم ونحن معكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجننا معكم ، وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم .

قال تعالى : { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } . ( الحشر : 11-13 ) .

وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم ، فتحصنوا في حصونهم وتأخروا عن الجلاء ، وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله ، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم وضيق عليهم الخناق ، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى إلى تسليمهم ، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود ، ولم يجدوا معونة من المنافقين ، ويئسوا من صدق وعودهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، وأن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا آلة الحرب ، فأجابهم النبي إلى طلبهم ، وصار اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم كيلا يسكنها المسلمون .

ولما سار اليهود نزل بعضهم بخيبر ، ومن أكابرهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق . ومنهم من سار إلى أذرعات بالشام ، وقد اسلم منهم اثنان يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب .

وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله والرسول ، ولم يوجفiii المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار فقيرين هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة ، وكان المهاجرين قد تركوا بلادهم وأموالهم وهاجروا فرارا بدينهم إلى المدينة . وقد استقبلهم الأنصار بالبشر والترحاب والمعونة الصادقة والإيثار الكريم ، فلما واتت الفرصة وزرع النبي الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادية ، ولكيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم .

قال تعالى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ( الحشر : 6 ) .

تسلسل أفكار السورة

1- وصفت سورة الحشر حصار بني النضير ، وعناية السماء بالمؤمنين ، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين . ( الآيات : 1-4 ) .

2- تحدثت عن قطع المسلمين للنخيل وبينت أن ذلك كان بأمر الله ليذل به اليهود ويخزي الفاسقين . ( الآية : 5 ) .

3- ذكرت حكم الفيء والغنائم التي غنمها المسلمون من بني النضير ، وبينت أنها توزع على المهاجرين لسد حاجاتهم ، ولا يعطي منها شيئا للأنصار لأنها ليست غنيمة حرب استخدم فيها الكرّ والفرّ وركوب الإبل والخيل ، ولكنها غنيمة حصار محدود انتهى بتسليم اليهود بعد أن ألقى الله الرعب في قلوبهم .

( الآيتان : 6-7 ) .

4- باركت السورة كفاح المهاجرين وخروجهم من مكة إلى المدينة حفاظا على الدين وفداء للعقيدة ، كما باركت كرم الأنصار وأريحتهم ، ووصفتهم بالسماحة والإيثار ، والمحبة للبذل والعطاء .

كما باركت الأجيال اللاحقة التي وُلدت في محاضن الدعوة ، وكانت ثمرة كريمة لترابط المهاجرين والأنصار . ( الآيات : 8-10 ) .

5- حملت السورة على المنافقين ، وكشفت نفاقهم وكيدهم ، واتهمتهم بالجبن والصغار . ( الآيات : 11-13 ) .

6- بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب لقاء في الظاهر فقط ، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى . . . } ( الحشر : 14 ) .

1- أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد يسمى برصيصا ، حين أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة ثم استدرجه إلى الكفر ثم تولى عنه وخذله ، ومثله كمثل المنافقين ، زينوا لليهود المقاومة والتحصن ضد المسلمين ثم خذلوهم . ( الآية : 16 ) .

2- في الجزء الأخير من السورة تلتفت الآيات إلى المؤمنين فتأمرهم بالتقوى والعمل الصالح ، وتبين فضل القرآن وأثره في هداية القلوب . ( الآيات : 18-21 ) .

3- تختم السورة بذكر أسماء اله الحسنى فهو سبحانه مالك الملك ( القدوس ) تقدست أسماؤه وتنزهت عن النقص ، ( السلام ) الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة ، ( المؤمن ) واهب الأمن وواهب الإيمان ، ( المهيمن ) الرقيب على كل شيء ، ( العزيز ) الغالب ، ( الجبار ) ، القاهر ، ( المتكبر ) البليغ الكبرياء والعظمة ، ( البارئ ) الموجد ، ( المصور ) خالق الصور للكائنات ، ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة ، ( له الأسماء الحسنى ) الدالة على الصفة العالية والكمال المطلق ، فهو سبحانه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص .

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة الحشر هو : الخبر عن جلاء بني النضير ، وقسم الغنائم ، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار ، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة ، وذكر برصيصاiv ، والنظر إلى العواقب ، وتأثير نزول القرآن ، وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته ، وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه ، في قوله سبحانه : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . ( الحشر : 24 ) .

النظام الاقتصادي في الإسلام

أشارت الآية السابعة من سورة الحشر إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم دون الأغنياء من أهل المدينة فقال تعالى : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ . . . }( الحشر : 7 ) . أي : كيلا كون الفيء – أي الغنيمة – متداولا بين الأغنياء دون الفقراء ، وهذه قاعدة هامة من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام .

وقد احترم الإسلام الملكية الفردية لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج ، ولكنه قلم أظفار هذه الملكية ، وحارب جبروت المال وطغيانه بما يأتي :

1- فرض الإسلام الزكاة وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال : فزكاة المال نسبتها 2 . 5% وكذلك زكاة التجارة 2 . 5% من رأس المال ، وزكاة الزراعة 5% أو 10% ، وقريب منها زكاة الماشية ، وزكاة الركاز وهو المال أو البترول أو المعادن أو الكنوز التي توجد في باطن الأرض نسبتها 20% .

وهكذا كلما كان عمل العبد أظهر كانت نسبة الزكاة أقل ، وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر ، لأن الفضل لله في ظهور الكنز أو البترول فكانت النسبة 20% ، والجهد ظاهر من العبد في التجارة والعمل في الحياة فنسبة الزكاة فيها2 . 5% .

2- حرم الإسلام الربا والاحتكار ، وهما الوسيلتان الرئيسيتان لجعل المال دولة بين الأغنياء ، أي يتداوله الأغنياء ولا يصل إليه الفقراء .

3- جعل للإمام الحق في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء فيردها على الفقراء ، وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء عند خلو بيت المال .

4- جعل هناك صدقات موسمية مثل : صدقة الفطر ، والأضحية ، والهدي في الحج ، والكفارات مثل : كفارة اليمين ، والظهار ، والفطر في رمضان ، وكلها تنتهي إلى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم .

5- حث الإسلام على الصدقة والتراحم والتكافل والمودة والتعاطف بين الناس ، وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية ، بل فيه محاسنهما مع التجرد من عيوبهما ، وذلك نظام العليم الخبير ، البصير بالنفوس الذي أعطى للإنسان حق التملك ثم جعله موظفا في ماله يجب عليه أن ينفق وأن يتصدق عن طواعية ورغبة في الثواب العاجل والآجل .

قال تعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . . . }( الحديد : 7 ) .

وقال سبحانه : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } . ( البقرة : 261 ) .

ويقول المرحوم أحمد شوقي في الهمزية النبوية التي مطلعها :

ولد الهدى فالكائنات ضياء *** وفم الزمان تبسم وثناء

وإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لا تفعل الأنواءv

وإذا عفوت فقادرا ومقدرا *** لا يستهين بعفوك الجهلاء

وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا خطبت فللمنابر هزة *** تعرو الندىvi وللقلوب بكاء

وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء

بك يا ابن عبد الله قامت سمحةvii *** بالحق من ملل الهدى غراء

الله فوق الخلق فيها وحده *** والناس تحت لوائها أكفاء

والدين يسر والخلافة بيعة *** والأمر شورى والحقوق قضاء

الاشتراكيون أنت إمامهم *** لولا دعاوى القوم والغلواءviii

داويت متئداix وداووا طفرةx *** وأخف من بعض الدواء داء

تمهيد :

سورة الحشر تسمى : سورة بني النضير .

روى البخاريxi عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : سورة بني النضير ، وهم قوم من اليهود ، وهي مدنية ، وآياتها أربع وعشرون بلا خلافxii .

وجاء في تفسير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة ما يأتي :

بدأت السورة بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السماوات والأرض ، وأنه العزيز الذي لا يُغلب ، الحكيم في تصرفاته وتشريعه ، ومن آثار عزته وحكمته ما تحدثت عنه السورة من عاقبة بني النضير – وهم من اليهود بالمدينة – وكانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة على ألا يكونوا عليه ولا له ، فلما كانت هزيمة المسلمين في يوم أحد نكثوا عهدهم ، وحالفوا قريشا عليه صلى الله عليه وسلم ، فحاصرهم في حصونهم التي ظنوا أنها تمنعهم ثم أجلاهم عن المدينة ، ثم بينت حكم الفيء ، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب ولا إسراع بركوب الخيل ونحوها ، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء والمهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهمxiii .

وفي حديث الآيات عن الأنصار تطرقت إلى إيثارهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروهم به ، ولفتت النظر إلى ما كان من وعود المنافقين لبني النضير ، في قولهم لهم : { لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم . . . } وقولهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم . . . }( الحشر : 11 ) . وفضحت كذبهم وتغريرهم في ذلك .

ثم خلصت السورة إلى تذكير المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله ، والتزود للمستقبل القريب والبعيد ، وألا يكونوا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم ، وختمت ببيان شأن القرآن وعظيم تأثيره ، ذلك لأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنىxiv .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ( 2 ) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) }

المفردات :

سبح لله : نزه ومجده وعظمه ، بدلالته على قدرة خالقه وعلمه وإتقان مخلوقاته .

العزيز : القادر الغالب ، الذي لا ينازعه أحد .

الحكيم : الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب ، أو الذي يُتقن خلق الأشياء ويحكمها .

التفسير :

1- { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

كل شيء في الأرض أو في السماوات يسبح لله وينزهه ويعظمه ، إما بلسان الحال وإما بلسان المقال . أما لسان الحال فإن السماء العالية والجبال الراسية والبحار الجارية والليل المظلم والنهار المضيء ، والقمر الباهر والكوكب الزاهر والنبات والفضاء والهواء ، وما في الكون من تكامل وإبداع يدل دلالة واضحة على أن وراء هذا الكون البديع يدا حانية تمسك نظامه وتحفظ توازنه وتدبّر شؤونه ، وكل ما نراه في الكون من جمال وإبداع وتناسق ، هو من أثر هذه القدرة العليا .

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد .

وهذه الآثار المتعددة تشهد بتنزيه الله عن الشريك والنظير ، وتقول بلسان الحال : سبحان الله العزيز الحكيم ، القوي القدير الذي يحكم الصنعة ويدبر الأمر ، وهو على كل شيء قدير .

وأما لسان المقال ، فكما تسبح الإنس ، والملائكة والجن ، يقول الله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر وتسمى سورة بني النضير .

{ سبح لله ما في السموات . . . } نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم [ آية 1 الحديد ص 400 ] .

نزلت هذه السورة في نضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون بقرب المدينة . كانوا قد صالحوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ؛ فلما هزم المسلمون في غزوة أحد أظهروا العداوة له ، ونقضوا العهد ، وحالفوا قريشا على أن يكونوا يدا واحدة عليه صلى الله عليه وسلم . وكان أشدهم حربا على الإسلام ، وفحشا في الرسول صلى الله عليه وسلم زعيمهم : كعب بن الأشرف ، الذي اغتاله محمد بن مسلمة ، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة . ولما قذف الله في قلوبهم الرعب أيسوا من نصرة المنافقين لهم كما وعدهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالمدينة – طلبوا الصلح فأبى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء ؛ على أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال ، إلا السلاح ، فجلوا إلى خيبر والحيرة ، وأريحاء وأذرعات بالشام . وكانوا أول من أجلى من أهل الذمة من الجزيرة . وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة . ثم أجلى آخرهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ وهو آخر حشر لهم منها . وقد دبروا أثناء الحصار الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم والفنك به ؛ فأطلعه الله على كيدهم .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون ، نزلت بعد سورة البيّنة . وقد نزلت السورة بكاملها في حديث بني النّضير من اليهود ، وكانوا في ضواحي المدينة في الجهة الشرقية منها على بُعد عدة أميال ، وكان نزولها في السنة الرابعة من الهجرة . وكان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين بني النضير حلف وعهد ، فذهب رسول الله ومعه عدد من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم ، إلى بني النضير ليستعينهم في دية قتيلين من بني عامر قتلهما عمرو بن أميّة الضّمري وهو لا يعلم أن معهما عهدا من رسول الله . فاستقبل يهود بني النضير الرسول الكريم وأصحابه خير استقبال ، وأظهروا له كل ترحيب ووعدوا بخير . لكنهم أضمروا الغدر . فلما أحس الرسول عليه الصلاة والسلام بالخيانة والغدر ترك أصحابه وذهب إلى المدينة ، ثم تبعه أصحابه لما استبطأوه ، فلما لحقوا به أخبرهم بما رآه من أمر اليهود ومن اعتزامهم الغدر به .

وقد بعث الرسول محمد بن مَسلمة ، أحد أصحابه وقال له : " اذهبْ إلى يهود بني النضير وقل لهم : إن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي ، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ، لقد أجّلتكم عشرا ، فمن رُؤي بعد ذلك ضربت عنقه " . ومكثوا أياما يتجهزون للخروج ، فجاءهم رسولان من عند رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ وقالا : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم .

وتشاوروا في الموضوع طويلا ، وقال لهم بعضهم : إن ابن أبيّ غير صادق . ألم يعِد بني قيْنقاع من قبل ، ولما جدّ الجدّ تخلى عنهم ! وأخيرا قال كبيرهم حُيّي بن أخطب : كلا ، بل أنا مرسل إلى محمد ، إنا لا نخرج من ديارنا وأموالنا ، فليصنعْ ما بدا له ، وعندنا من الطعام ما يكفينا سنة ، وعندنا الماء . وهكذا صمّموا على البقاء .

وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا ، فأخذ المسلمون السلاح وساروا إليهم فقاتلوهم عشرين ليلة ، وعبثا انتظر اليهود نصر ابن أبيّ ، رأس المنافقين . فلما يئسوا وملأ الرعب قلوبهم ، سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤمنهم على أموالهم ودمائهم وذراريهم حتى يخرجوا من المدينة ، فصالحهم على أن يخرجوا ، لكل ثلاثة بعير ، يحملون عليه ما شاؤوا من الطعام والمال ولا يأخذون سلاحا أبدا . وتركوا وراءهم للمسلمين مغانم كثيرة من غلال وسلاح . وفي ذلك كله نزلت سورة الحشر ، وكان نصر الله عظيما .

وقد بدئت هذه السورة الكريمة بالإخبار بأن الله سبح له ونزهه عما لا يليق به كل شيء في السموات والأرض ، ثم بينت حكم الفيء ، وهو ما كان من الغنائم بلا حرب ، فذكرت أنه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وللفقراء من المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم . ثم تحدثت عن الأنصار وفضلهم ، وإيثارهم المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم حاجة إلى ما آثروا به .

وبيّنت كذب المنافقين وعدم وفائهم بوعودهم لنصر اليهود في قولهم : { لئن أُخرجتم لنخرجنّ معكم ، ولئن قوتلتم لننصرنّكم } ، وفضحت كِذبهم في ذلك .

ثم ذكّرت المؤمنين بما ينبغي أن يكونوا عليه من تقوى الله والتزود للمستقبل ، والاستعداد الدائم ، لا كالذين أعرضوا عن الله فأنساهم أنفسهم .

وختمت السورة بأعظم ختام ببيان شأن القرآن العظيم ، وما له من تأثير كبير ، وأن الذي أنزله هو الله الذي لا إله إلا هو ، له الأسماء الحسنى . . وهكذا يتناسب البدء مع حسن الختام .

لقد تقدم مثله في أول سورة الحديد وشرحناه ما استطعنا هناك .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون .

قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر قال : قل سورة النضير .

قوله تعالى : { سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فصالحته بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فلما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً وظهر على المشركين قالت بنو النضير : والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما غزا أحداً وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ، ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة -ذكرناه في سورة آل عمران . وكان النبي صلى الله عليه وسلم اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة ، فهموا بطرح حجر عليه من فوق الحصن ، فعصمه الله وأخبره بذلك -ذكرناه في سورة المائدة . فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير ، وكانوا بقرية يقال لها زهرة ، فلما سار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف ، فقالوا : يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية ؟ قال : نعم ، قالوا : ذرنا نبكي شجوناً ثم ائتمرنا بأمرك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك ، فتنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال ، ودس المنافقون -عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه- إليهم : أن لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم . فدربوا على الأزقة وحصنوها ، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه : أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك ، وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان بيننا وبينك ، فيستمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلاً من أصحابه كلهم يحب أن يموت قبله ؟ فأرسلوا إليه : كيف نفهم ونحن ستون رجلاً ؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيستمعوا منك ، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه ، وخرج ثلاثة من اليهود ، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، فرجع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح ، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبلوا ذلك ، فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح ، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم . وقال ابن عباس : على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم ، ولنبي الله صلى الله عليه وسلم ما بقي . وقال الضحاك : أعطي كل ثلاثة نفر بعيراً وسقاة ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة .

فذلك قوله عز وجل : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب }

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية في قول الجميع ، وهي أربع وعشرون آية ، روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ سورة الحشر لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له ، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا ) . خرجه الثعلبي . وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ آخر سورة الحشر{[1]}{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل }[ الحشر : 21 ] - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا ) . وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به{[2]} سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك ) . قال : حديث حسن غريب .

تقدم{[14808]} .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
[14808]:راجع جـ 17 ص 235.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحشر{[1]} وتسمى سورة النضير{[2]} ، مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل{[3]} شهودي على أنه يغلب هو ورسله ، ومن حاده في الأذلين ، لأنه قوي عزيز ، المستلزمة للعلم التام المستلزم [ للحكمة البالغة المستلزمة-{[4]} ] للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على وجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال ، وأدل{[5]} ما فيها على ذلك تأمل قصة [ بني{[6]}- ] النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على الظن أنه لا يكون ، فلذا{[7]} سميت بالحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم [ وغيرهم{[8]}- ] من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين ، لأنهم{[9]} أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما{[10]} لهم من الدين الذي أصله قويم{[11]} بما لوحت إليه الحديد ، كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت –بظهور دينه على كل دين على حد سواء ، كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد{[12]}- الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة{[13]} ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي لا راد لأمره{[14]} فلا خلف لعباده ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده فلا محيص عن معاده ( الرحيم ) الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده{[15]} .

لما{[63590]} ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته ، ومذل أهل معصيته ومحادته ، علله بتنزهه{[63591]} عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال : { سبح } أي أوقع التنزيه{[63592]} الأعظم عن كل شائبة نقص { لله } الذي أحاط بجميع صفات{[63593]} الكمال .

ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من{[63594]} الكواكب ، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة ، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال : { ما في السماوات } أي كلها . ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذين يحادون الله ، وكان ذلك لمن دون الخلص ، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال : { وما } ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها ، أفرد فقال : { في الأرض } .

ولما شمل هذا جميع العالم ، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال : { وهو } أي والحال أنه وحده { العزيز } الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء{[63595]} { الحكيم * } الذي نفذ علمه{[63596]} في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن{[63597]} ما أراد ، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً ، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلاً .

وقال الإمام {[63598]}أبو جعفر{[63599]} بن الزبير : لا خفاء باتصال أيها بما{[63600]} تأخر من آي سورة المجادلة ، ألا ترى أن قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ، ثم قال في آخر السورة :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } ، فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع{[63601]} ما ارتكبوه ، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم{[63602]} وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم ، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه من سوء مرتكبهم ، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه ، وتناسج الكلام ، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب ، وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم{ أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل }[ المائدة : 60 ] ، وقال تعالى :{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }[ المائدة : 78 ] ، فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم ، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع ، فلما كان الغضب{[63603]} مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك ، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال :{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض } وإنما يرد{[63604]} مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع ، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل{[63605]} بما تقدم ، ثم تناسجت الآي - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[13]:- في النسخ كلها: لا، وفي البخاري: ما، وقول علي رضي الله عنه نقل من البخاري فأثبتناها.
[14]:- في ظ: فهما، وفي متن البخاري كذلك، وعلى حاشيته: فهم.
[15]:- في ظ ومد: عمرو.
[63590]:من م، وفي الأصل وظ: ولما.
[63591]:- من م، وفي الأصل وظ: بتنزيهه.
[63592]:- من م، وفي الأصل وظ: للشبه.
[63593]:- زيد من ظ.
[63594]:زيد من ظ وم.
[63595]:- سقط من ظ.
[63596]:- من ظ وم، وفي الأصل: حكمه.
[63597]:- زيد في الأصل: كل، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63598]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[63599]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[63600]:- من ظ وم، وفي الأصل: ما.
[63601]:- من ظ وم، وفي الأصل: تشنيع.
[63602]:- من ظ وم، وفي الأصل: هواهم.
[63603]:- زيد في الأصل: أيضا، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[63604]:- من ظ وم، وفي الأصل: يسره.
[63605]:- من م، وفي الأصل وظ: يتوصل.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة :

هذه السورة مدينة وآياتها أربع وعشرون . وهي سورة بني النضير ، وذلك لكبير المجال الذي احتله الحديث عنهم في السورة ، على أن بني النضير فئة من اليهود أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خارج المدينة ، إذ ذهب بعضهم إلى خيبر ، وذهب آخرون إلى أرض الشام وهي من أرض المحشر يوم القيامة . ولقد أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم بما نقضوه من المواثيق وخيانتهم للعهود .

وفي السورة بيان بالفيء من حيث معناه وحكمه وكيفية تقسيمه . وهو المال المأخوذ من المشركين من غير قتال ، إذ ينتزع المسلمون منهم المال الفاضل عن حاجتهم عقب قتالهم والتغلب عليهم . وذلك لإضعافهم وثنيهم عن قتال المسلمين ، ذلك أن الظالمين يتقوون بالمال على حرب الإسلام والمسلمين . فهم بالمال يستطيعون أن يملكوا وسائل الحرب والقتال من السلاح بمختلف أصنافه وغير ذلك من أسباب القتال ولوازمه لا جرم أن المال في أيدي المشركين الظالمين لهو وسيلة أساسية وكبرى تمكنهم من العدوان على المسلمين وإشاعة الشر والأذى والإرهاب والأراجيف في الأرض ، فإذا انتزعت منهم هذه الوسيلة المؤثرة الخطيرة ، قبعوا خاسئين خاضعين خانعين وقد سكنت فيهم بواعث الشر وأخرست فيهم ألسنة السوء من الدعاية الفاجرة الظالمة ، والتحريض المدمّر الشرير ومن أجل ذلك كله شرع الإسلام انتزاع المال من أيديهم إلا ما كانوا يحتاجون إليه ليعيشوا في ظل الإسلام آمنين سالمين .

بسم الله الراحمان الرحيم :

{ سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولى الأبصار 2 ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار 3 ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب 4 ما قطعتم من لّينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } .

يبين للناس أن كل شيء في السماوات أو في الأرض يعظمه تعظيما ويمجّده تمجيدا ، وهو مذعن له بالوحدانية والإلهية وأنه الرب القادر ذو الملكوت ، { وهو العزيز الحكيم } العزيز يعني القوي القاهر المنتقم من الظالمين المتجبرين ، وهو الحكيم في تدبير أمور خلقه ، وهو قوله سبحانه : { سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .