أي : ولا أنتم عابدون عبادتي ، فلا معبودتنا واحد ، ولا عبادتنا واحدة .
أنا أعبد الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، المنزه عن النظير والمثيل ، أوّل بلا ابتداء ، وآخر بلا انتهاء ، بيده الخلق والأمر ، لا حدود لقدرته ، فهو على كل شيء قدير ، إذا أراد أمرا كان وحصل ، فعّال لما يريد : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . ( يس : 82 ) .
أما معبودكم فهو هذه الأصنام والأوثان ، وعبادتي خالصة لله الواحد الأحد ، وعبادتكم تشوبها أفكار ملفّقة ، حيث تدّعون أن الله تزوج من أغنياء الجن فولدوا له الملائكة ، وتدّعون أن الأصنام تقربكم من الله ، وهي أصنام صماء لا تسمع ولا تنفع ، ولا تجيب ولا تعقل شيئا .
{ ولا أنتم عابدون } فيما يستقبل أبدا{ ما أعبد } فأيأسهم من الذي طمعوا فيه ، وأخبرهم أنه غير كائن منه في وقت من الأوقات . وأيأس نبيه من الطمع في أيمانهم ؛ وقد تحقق ذلك بموت بعضهم على الكفر ، وقتل باقيهم يوم بدر .
وللمفسرين أقوال كثيرة في تفسير هذه القرائن الأربع ؛ فمنهم من حمل الأوليين على الاستقبال ، والأخريين على المضي أو على الحال ، ومنهم من حمل الأوليين على المضي والأخريين على الاستقبال . ومنهم جعل القرينة الثالثة المنفية توكيدا للأولى ، والرابعة توكيدا للثانية . وقيل غير ذلك . كما اختلفوا في " ما " في القرينة الثانية والرابعة ؛ فحملها بعضهم على الصفة . كأنه قيل : ولا أنتم عابدون ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قسره ، واختار أبو مسلم : أنها في القرينتين الأولين موصولة ، وفي الأخريين مصدرية ؛ أي لا أعبد المعبود الذي تعبدون ، ولا أنتم عابدون المعبود الذي أعبد ، ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقية ، ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبينة على التوحيد والإخلاص . وقيل غير ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } فيما بعد اليوم ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان المشركون من قومه -فيما ذُكر- عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة ، على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة ، فأنزل الله مُعَرّفه جوابهم في ذلك : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة ، على أن يعبدوا إلهك سنة "يا أيّها الكافِرُونَ" بالله "لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ" من الآلهة والأوثان الآن ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ" الآن ، "وَلا أنا عابِدٌ" فيما أستقبل "ما عَبَدْتُمْ" فيما مضى ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ" فيما تستقبلون أبدا "ما أعْبُدُ" أنا الآن ، وفيما أستقبل . وإنما قيل ذلك كذلك ؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُؤَيّسَهم من الذي طمعوا فيه ، وحدّثوا به أنفسهم ، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم ، في وقت من الأوقات ، وآيسَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبدا ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا ، إلى أن قُتِل بعضُهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافرا ...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ ولا أنتم عابدون } في الاستقبال { ما أعبد } فنفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل ، وهذا في قوم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون ، ونفى أيضا عن نفسه عبادة الأصنام في الحال ، وفيما يستقبل ، لييأسوا عنه في ذلك . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ... فإن قلت : فلم جاء على «ما » دون «من » ؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن «ما » مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ ولا أنتم عابدون } أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال . ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى ، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار ، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي ... فقال : { ما أعبد } أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن ، وفي ماضي الزمان ، ومستقبله ، اتصافاً يعتد به .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة : { ولا أنا عابد ما عبدتم } [ الكافرون : 4 ] لبيان تمام الاختلاف بين حاله وحالهم وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخباراً ثانياً تنبيهاً على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله ، وتقويةً لدلالة هذين الإِخبار على نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فماتَ أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة .
وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيداً للمعنى الأصلي منها ، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفاً في قوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } .
ولذلك فالواو في قوله هنا : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } من المناسبة .
ويجوز أن تكون جملة { ولا أنتم عابدون ما أعبد } تأكيداً لفظياً لنظيرتها السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة : { ولا أنا عابد ما عبدتم } معترضة بين التأكيد والمؤكد .
والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عَرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم
ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس : أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبدالمطلب ، وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظنا منه . وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله عز وجل " قل يا أيها الكافرون " .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استلمت{[16507]} بعض هذه الآلهة لصدقناك ، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه ، وآذوه ، وآذوا أصحابه . والألف واللام ترجع إلى معنى المعهود ، وإن كانت للجنس ، من حيث إنها كانت صفة لأي ؛ لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم . ونحوه عن الماوردي : نزلت جوابا ، وعني بالكافرين قوما معينين ، لا جميع الكافرين ؛ لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات أو قتل على كفره ، وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون . قال أبو بكر بن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن : قل للذين كفروا { لا أعبد ما تعبدون } وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على رب العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين بخطابه إياهم بهذا الخطاب الزريّ ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا . وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلا ليس عندهم في باطلهم وتحريفهم . فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا : يأيها الكافرون ، دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا ، فمعناه : قل لزيد : يا زيد أقبل إلينا . فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ وأبلغ معنى ؛ إذ كان الرسول عليه السلام يعتمدهم في ناديهم ، فيقول لهم : " يأيها الكافرون " . وهو يعلم أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ، ويدخلوا في جملة أهله إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد ، أو تقع به من جهتهم أذية . فمن لم يقرأ { قل يأيها الكافرون } كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وسبيل أهل الإسلام ألا يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها .
وأما وجه التكرار فقد قيل : إنه للتأكيد في قطع أطماعهم ، كما تقول : والله لا أفعل كذا ، ثم والله لا أفعله . قال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام ، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز ؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيء إلى شيء أولى من اقتصاره في المقام على شيء واحد ، قال الله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] . { ويل يومئذ للمكذبين } [ المطففين : 10 ] . { كلا سيعلمون ، ثم كلا سيعلمون }[ النبأ : 4 - 5 ] . و{ فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا }[ الشرح :5 - 6 ] . كل هذا على التأكيد . وقد يقول القائل : ارم ارم ، اعجل اعجل ، ومنه قوله عليه السلام في الحديث الصحيح : " فلا آذن ، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني " . خرجه مسلم{[16508]} . وقال الشاعر :
هلا سألتَ جموعَ كندَةَ *** يوم وَلَّوْا أينَ أيْنَا
يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لِي كُلَيْبًا *** يا لبكرٍ أينَ أينَ الفِرَارُ{[16509]}
يا علقمهْ يا علقمهْ يا علقمهْ *** خيرَ تميم كلِّها وأكْرَمَهْ
يا أقرعُ بن حابس يا أقرعُ *** إنك إن يصرع أخوك تُصْرَعُ{[16510]}
ألا يا اسلمي ثم اسلمي *** ثلاثَ تحياتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
ومثله كثير . وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة . فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ، أي إن هذا لا يكون أبدا . قال ابن عباس : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ، ونزوجك من شئت ، ونطأ عقبك ، أي نمشي خلفك ، وتكف عن شتم آلهتنا ، فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك صلاح : تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ، ونحن نعبد إلهك سنة{[16511]} ، فنزلت السورة . فكان التكرار في { لا أعبد ما تعبدون } ؛ لأن القوم كرروا عليه مقالهم مرة بعد مرة . والله أعلم . وقيل : إنما كرر بمعنى التغليظ . وقيل : أي { لا أعبد } الساعة { ما تعبدون . ولا أنتم عابدون } الساعة { ما أعبد } . ثم قال : { ولا أنا عابد } في المستقبل { ما عبدتم . ولا أنتم{ في المستقبل { عابدون ما أعبد } . قاله الأخفش والمبرد . وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملوا وثنا ، وسئموا العبادة له ، رفضوه ، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ورفعوا تلك ، فعظموها ونصبوها آلهة يعبدونها ، فأمر عليه السلام أن يقول لهم : { لا أعبد ما تعبدون } اليوم من هذه الآلهة التي بين أيدكم . ثم قال : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي وإنما أنتم تعبدون الوثن الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن . { ولا أنا عابد ما عبدتم } أي بالأمس من الآلهة التي رفضتموها ، وأقبلتم على هذه . { ولا أنتم عابدون ما أعبد } فإني أعبد إلهي . وقيل : إن قوله تعالى : { لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الاستقبال . وقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } على نفي العبادة منه لما عبدوا في الماضي . ثم قال : { ولا أنتم عابدون ما أعبد } على التكرير في اللفظ دون المعنى ، من قبل أن التقابل يوجب أن يكون : ولا أنتم عابدون ما عبدت ، فعدل عن لفظ عبدت إلى أعبد ، إشعارا بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل ، مع أن الماضي والمستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر . وأكثر ما يأتي ذلك في أخبار الله عز وجل . وقال : " ما أعبد " ، ولم يقل : من أعبد ؛ ليقابل به { ولا أنا عابد ما عبدتم } وهي أصنام وأوثان ، ولا يصلح فيها إلا { ما } دون { من } فحمل الأول على الثاني ، ليتقابل الكلام ولا يتنافى . وقد جاءت { ما } لمن يعقل . ومنه قولهم : سبحان ما سخركن لنا . وقيل : إن معنى الآيات وتقديرها : قل يا أيها الكافرون لا أعبد الأصنام التي تعبدونها ، ولا أنتم عابدون الله عز وجل الذي أعبده ؛ لإشراككم به ، واتخاذكم الأصنام ، فإن زعمتم أنكم تعبدونه ، فأنتم كاذبون ؛ لأنكم تعبدونه مشركين . فأنا لا أعبد ما عبدتم ، أي مثل عبادتكم ، " فما " مصدرية . وكذلك { ولا أنتم عابدون ما أعبد } مصدرية أيضا ، معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي ، التي هي توحيد .
ولما كان هو صلى الله عليه وسلم ثابتاً على إله واحد لم يعبد غيره ، ولم يلتفت يوماً لفت سواه ، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالاً أو مآلاً ، وأن يكون عبده قبل ذلك ، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال ، نفى ذلك في الاستقبال أيضاً علماً من أعلام النبوة ، مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جرياً على مناهج العرب في التأكيد قطعاً لآمالهم منه على أتم وجه وآكده ؛ لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة ، فقال : { ولا أنتم عابدون } أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال .
ولما لم يكن قبل البعث مشهوراً عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى ، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار ، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مراداً به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند{ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله }[ الحج : 25 ] من أنه يطلق المضارع مراداً به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين ، فقال : { ما أعبد * } أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن ، وفي ماضي الزمان ، ومستقبله ، اتصافاً يعتد به .