فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ} (5)

{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته ، كذا قيل ، وهذا على قول من قال :إنه لا تكرار في هذه الآيات ؛ لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل ، لما قدمنا من أن ( لا ) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال .

والدليل على ذلك أن لن تأكيد لما ينفيه ( لا ) . قال الخليل في لن : إن أصله ( لا ) ، فالمعنى : لا أعبد ما تعبدون في المستقبل ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي .

ثم قال : ولا أنا عابد ما عبدتم ، أي ولست في الحال بعابد معبودكم ، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي . وقيل بعكس هذا ، وهو أن الجملتين الأوليين للحال ، والجملتين الآخرتين للاستقبال بدليل قوله { ولا أنا عابد ما عبدتم } كما لو قال القائل : أنا ضارب زيدا ، وأنا قاتل عمرا ، فإنه لا يفهم منه إلا الاستقبال .

قال الأخفش والفراء : المعنى : لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد .

قال الزجاج : نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفي المستقبل ، ونفى عنهم عبادة الله في الحال ، وفيما يستقبل . وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال والاستقبال ، ولكنا نخص أحدهما بالحال والثاني بالاستقبال رفعا للتكرار .

وكل هذا فيه من التكلف والتعسف ما لا يخفى على منصف ، فإن جعل قوله : { لا أعبد ما تعبدون } للاستقبال ، وإن كان صحيحا على مقتضى اللغة العربية ، ولكنه لا يتم جعل قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } للاستقبال ؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والثبات في كل الأوقات ، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام والثبات في كل الأوقات ، ولو كان حملها الاستقبال صحيحا للزم مثله في قوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } ، وفي قوله { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، فلا يتم ما قيل من حمل الجملتين الآخرتين على الحال .

وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس ؛ لأن الجملة الثانية والثالثة والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها ، مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد وهو لفظ ( لا ) في كل واحد منها ، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة ؟

وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال فهو إقرار منه بالتكرار ؛ لأن حمل هذا على معنى ، وحمل هذا على معنى ، مع الاتحاد ، يكون من باب التحكم الذي لا يدل عليه دليل .

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التي لا تجحد ، واستعمالاتهم التي لا تنكر ، إنهم إذا أرادوا التأكيد كرروا ، كما أن من مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا ، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب ، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ؛ لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ، ويبرهن على ما هو متنازع فيه .

وأما ما كان من الوضوح والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ، ولا يرتاب فيه مرتاب ، فهو مستغن عن التطويل ، غير محتاج إلى تكثير القال والقيل .

وقد وقع في القرآن الكريم من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن ، وربما يكثر في بعض السور كما في سورة الرحمان وسورة المرسلات ، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر .

وقد ثبت عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات .

وإذا عرفت هذا ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم ، وإنما عبر سبحانه ب( ما ) التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة ؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله سبحانه ما سخركن لنا ونحوه .

والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ، ولا يختلف ، وقيل : إنه أراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق ، وقيل : إن ( ما ) في المواضع الأربعة هي المصدرية لا الموصولة ، أي لا أعبد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي الخ .