اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ} (5)

وأما قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ، ف «عَابِدُون » قد أعمله في : «مَا أعبدُ » ، فلا يفسر بالماضي .

وأما قوله : «وهو لم يكن » ، إلى آخره ، فسوء أدب على منصب النبوة ، وغير صحيح ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل مُوحِّداً لله تعالى ، مُنزِّهاً له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه ، مجتنباً لأصنامهم ، يقف على مشاعر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ويحجّ البيت ، وهذه عبادة ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم ، ومعرفة الله - تعالى - أعظم العبادات .

قال الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .

قال المفسرون : أي ليعرفون ، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى .

قال شهاب الدين{[61006]} : ويجاب عن الأول : أنه من بنى أمره على الغالب ، فلذلك أتى بالحصرِ ، وأما ما حكاه سيبويه ، فظاهر معه ، حتى يقوم دليل على غيره ، وعن إعماله اسم الفاعل مفسراً له بالماضي بأنه على حكاية الحال ، كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] ، وقوله تعالى : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] ، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يزل منزهاً موحداً لله تعالى ، فمسلم ذلك . وقوله : «وهذه أعظم العبادات » فمسلم أيضاً ، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة ، وهي الصلاة المخصوصة ؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم ، وصلاتهم لها ، فقابل هذا صلى الله عليه وسلم بصلاته لله تبارك وتعالى ، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل المبعث ، وهو مذهب ساقط الاعتبار ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده ، وهي : أنه كان يتحنَّثُ ، كان يتعبد ، كان يصوم ، كان يطوف ، كان يقف ، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس .

وفي الجملة ، فالمسألة خلافية ، وإذا كان متعبداً فبأي شرع كان يتعبدُ به ؟ فقيل : شريعة نوح عليه الصلاة والسلام .

وقيل : إبراهيم عليه السلام .

وقيل : موسى .

وقيل : عيسى - صلوات الله عليهم أجمعين - ، وذلك مذكور في الأصول .

ثم قال أبو حيان{[61007]} : والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل ؛ لأن الغالب في «لا » أن تنفي المستقبل ، ثم عطف عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نفياً للمستقبل ؛ لأن اسم الفاعل العامل ، الحقيقة فيه : دلالته على الحال ، ثم عطف عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نفياً للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى ، أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون حالاً ، ولا مستقبلاً وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر .

/خ5


[61006]:الدر المصون 6/582.
[61007]:البحر المحيط 8/523.