محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ} (5)

{ ولا أنتم عابدون } أي فيما تستقبلونه أبدا { ما أعبد } أي الآن ، وفيما أستقبل ، هكذا فسره الإمام ابن جرير{[7566]} رحمه الله ، ثم قال : وإنما قيل ذلك كذلك ؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه ، وحدثوا به أنفسهم ، وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات ، وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبدا ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافرا ، ثم روى رحمه الله عن ابن إسحاق عن سعيد بن مينا قال : " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، هلم ، فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، ونشركك في أمرنا كله ، فإن كان الذي كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت منه بحظك ، فأنزل الله { قل يا أيها الكافرون . . . } السورة " ، وفي رواية " وأنزل الله في ذلك هذه السورة وقوله {[7567]} { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } " انتهى .

وقيل : الجملتان الأخيرتان لنفي العبادة حالا ، كما أن الأوليين لنفيها استقبالا . قال أبو السعود : وإنما لم يقل ( ما عبدت ) ليوافق { ما عبدتم } لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام ، وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى . وإيثار { ما } في { ما أعبد } على ( من ) ؛ لأن المراد هو الوصف ، كأنه قيل :{ ما أعبد } من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته ، وقيل : إن ( ما ) مصدرية ، أي لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي . وقيل : الأوليان بمعنى ( الذي ) ، والأخريان مصدريتان . وقيل : قوله تعالى { ولا أنا عابد ما عبدتم } تأكيد لقوله تعالى :{ لا أعبد ما تعبدون } ، وقوله تعالى :{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثانيا تأكيد لمثله المذكور أولا ، انتهى .

ونقل ابن كثير عن الإمام ابن تيمية أن المراد بقوله :{ لا أعبد ما تعبدون } نفي الفعل ؛ لأنها جملة فعلية { ولا أنا عابد ما عبدتم } نفي قوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفي الفعل ، وكونه قابلا لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ، ونفي الإمكان الشرعي أيضا ، وهو قول حسن .

واختار الإمام كون ( ما ) في الأولين موصولة ، وفيما بعدهما مصدرية . قال : فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود ، ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة ، فلا معبودنا واحد ، ولا عبادتنا واحدة ؛ لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزه عن الند والشفيع المتعالي عن الظهور في شخص معين الباسط فضله لكل من أخلص له الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه ، والذي تعبدونه على خلاف ذلك ، وعبادتي مخلصة لله وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك ، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ، فلا تسمى على الحقيقة عبادة ، فأين هي من عبادتي ؟


[7566]:انظر الصفحة رقم 321 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).
[7567]:39 / الزمر / 64 و 66.