فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ} (5)

{ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته ، كذا قيل ، وهذا عل قول من قال إنه لا تكرار في هذه الآيات ، لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدّمنا من أن «لا » لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال ، والدليل على ذلك أن " لن " تأكيد لما تنفيه " لا " . قال الخليل في " لن " : إن أصله " لا " ، فالمعنى : لا أعبد ما تعبدون في المستقبل ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي . ثم قال : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي ولست في الحال بعابد معبودكم ، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي . وقيل : بعكس هذا ، وهو أن الجملتين الأوليين للحال ، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } كما لو قال القائل : أنا ضارب زيداً ، وأنا قاتل عمراً ، فإنه لا يفهم منه إلاّ الاستقبال . قال الأخفش ، والفرّاء : المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد .

قال الزجاج : نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل ، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل . وقيل : إن كل واحد منهما يصلح للحال ، والاستقبال ، ولكنا نخص أحدهما بالحال ، والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار . وكل هذا فيه من التكلف والتعسف مالا يخفى على منصف ، فإن جعل قوله : ولا { أعبد ما تعبدون } للاستقبال ، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية ، ولكنه لا يتمّ جعل قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } للاستقبال ، لأن الجملة إسمية تفيد الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام ، والثبات في كل الأوقات ، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } وفي قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } فلا يتمّ ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال ، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس ، لأن الجملة الثانية ، والثالثة ، والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد ، وهو لفظ " لا " في كل واحد منها ، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة .

وأما قول من قال : إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال ، فهو إقرار منه بالتكرار ، لأن حمل هذا على معنى ، وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدلّ عليه دليل .

وإذا تقرّر لك هذا ، فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب ، ومن مذاهبهم التي لا تجحد ، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا ، كما أن مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا ، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب ، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ، لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء ، ويبرهن على ما هو متنازع فيه . وأما ما كان من الوضوح ، والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك ، ولا يرتاب فيه مرتاب ، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل . وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن ، وربما يكثر في بعض السور ، كما في سورة الرحمان ، وسورة المرسلات ، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر ، ومن ذلك قول الشاعر :

يا لبكر انشروا لي كليبا *** يا لبكر أين أين الفرار

وقول الآخر :

هلا سألت جموع كف *** سدة يوم ولوا أين أينا

وقول الآخر :

يا علقمة يا علقمة يا علقمة *** خير تميم كلها وأكرمه

وقول الآخر :

ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي *** ثلاث تحيات وإن لم تكلم

وقول الآخر :

يا جعفر يا جعفر يا جعفر *** إن أك دحداحاً فأنت أقصر

وقول الآخر :

أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس *** . . .

وقد ثبت عن الصادق المصدوق ، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات ، وإذا عرفت هذا ، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم ، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة ، لأنه يجوز ذلك كما في قوله : سبحان ما سخركن لنا ، ونحوه ، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد ، ولا يختلف .

وقيل : إنه أراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق . وقيل : إن «ما » في المواضع الأربعة هي : المصدرية لا الموصولة : أي لا أعبد عبادتكم ، ولا أنتم عابدون عبادتي إلخ .

/خ6