بالحق : الواجب من فعل الطاعات وترك المحرمات .
3- إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .
أي : إن الإنسان لفي خسارة ونقصان وهلاك ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فإنهم في نجاح وفلاح ، ونصر مبين في الدنيا ، وسعادة في الآخرة .
لقد حكم الله بأن جنس الإنسان في خسران إلا من أتى بأربعة أشياء :
الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر خيره وشره ، حلوه ومرّه .
( ب ) وعناصر العمل الصالح ثلاثة :
أداء الفرائض ، واجتناب النواهي ، وفعل الخير .
هو التواصي بالثبات على أمور الدين ، وشرائع الإسلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والعمل بالقرآن والسنة ، والبعد عن الزور والبدعة .
هو أن يوصي الناس بعضهم بعضا بالثبات على الطاعات ، والبعد عن المعاصي ، والرضا بالقضاء والقدر في المصائب والمحن .
قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره :
دلّت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه ، فذلك قرن به التواصي .
لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم . اه .
ذلك أن الكمال في معرفة الحق والدعوة إليه ، وفي التواصي بالصبر والثبات عليه ، وذلك بعد الإيمان والعمل الصالح .
قال تعالى : يا بنيّ أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إنّ ذلك من عزم الأمور . ( لقمان : 17 ) .
وقال عمر : رحم الله من أهدى إليّ عيوبي .
إنما قال : وتواصوا . ولم يقل : وأوصوا ، لتبيّن أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، وتقبّل الحق عند الوصية به ، فكأن في هذه العبارة الجزلة قد نص على تواصيهم بالحق ، وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم .
( تم بحمد الله تعالى وتوفيقه تفسير سورة العصر ) .
i في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 30/651 .
ii في ظلال القرآن 30/243 ، بتصرف .
iii لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر :
رواه مسلم في الألفاظ من الأدب ( 2246 ) وأحمد في مسنده ( 8892 ) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر ) .
{ إلا الذين آمنوا } استثناء منضل إذا أريد بالإنسان الجنس . ومنقطع إذا أريد به خصوص الكافر . والأعمال الصالحات تشمل جميع ما يعمله الإنسان مما فيه خير ونفع وبر . { تواصوا بالحق } أوصى بعضهم بعضا بالتمسك بالحق . ومنه الثبات على الإيمان بالله وكتبه ورسله ، والعمل بشريعتة في كل عقد وعمل ؛ وذلك هو الأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره . { وتواصوا بالصبر } أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي ، التي تميل إليها النفوس بالطبيعة البشرية . والصبر على الطاعات التي يشق على النفوس أداؤها ؛ ومنها الجهاد في سبيله ، وعلى البلايا والمصائب التي تصيب الناس في الدنيا ، ويصعب على النفوس احتمالها .
الحق : خلاف الباطل ، والعدل ، وما يجب للفرد والجماعة ، وحقوق الله : ما يجب علينا نحوه .
الصبر : تحمُّل المكروه دون جزع ، واحتمالُ المشقّة في سبيل الله ، والغير ، والعملِ الطيب .
ثم بيّن الله تعالى بوضوح أن الإنسانَ المعتدِلَ الذي يقوم بما عليه من الواجباتِ ليس من الخَاسِرين ، فاستثناه بقوله تعالى :
{ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر }
إن الناس في ضلال وهلاكٍ إلا الذين آمنوا بالله ، وعملوا الأعمالَ الصالحة في سبيل الله ومجتمعهم ، وصدقوا في إيمانهم ، وأوصى بعضُهم بعضاً بالتمسّك بالحق والصبرِ على المشاق .
هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الفضائل الأربع :
الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، يعملون الخير ويدعون إلى العمل به . والصبرُ فضيلة ليس لها مثيل . وقد ذُكر الصبر في القرآن الكريم أكثر من ستين مرة . { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] .
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] ، إلى آياتٍ لا حصر لها . . . اللهم اجعلنا في زمرة الصابرين العاملين الّذين تواصَوا بالحق وتواصَوا بالصبر .
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به .
والعمل الصالح ، وهذا شامل لأفعال الخير كلها ، الظاهرة والباطنة ، المتعلقة بحق الله وحق عباده{[1476]} ، الواجبة والمستحبة .
والتواصي بالحق ، الذي هو الإيمان والعمل الصالح ، أي : يوصي بعضهم بعضًا بذلك ، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه .
والتواصي بالصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة .
فبالأمرين الأولين ، يكمل الإنسان{[1477]} نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره ، وبتكميل الأمور الأربعة ، يكون الإنسان قد سلم من الخسار ، وفاز بالربح [ العظيم ] .
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكل ؛ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك ، وكان فيهم من خلصه الله سبحانه وتعالى مما طبع عليه الإنسان بجعله في أحسن تقويم ، وحفظه عن الميل مع ما فيه من النقائص ، استثناهم سبحانه وتعالى ؛ لأنهم قليل جداً بالنسبة إلى أهل الخسر ، فقال دالاًّ بالاستثناء على أن النفوس داعية إلى الشر ، مخلدة إلى البطالة واللهو ، فالمخلص واحد من ألف كما في الحديث الصحيح { إلا الذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه وتعالى والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولعل حكمة التعبير بالماضي الحث على الدخول في الدين ولو على أدنى الدرجات ، والبشارة لمن فعل ذلك بشرطه بالنجاة من الخسر .
ولما كان الإنسان حيواناً ناطقاً ، وكان كمال حيوانيته في القوة العملية للحركة بالإرادة لا بمقتضى الشهوة القاسرة البهيمية ، قال تعالى : { وعملوا } أي تصديقاً بما أقروا به من الإيمان { الصالحات } أي هذا الجنس ، وهو اتباع الأوامر واجتناب النواهي في العبادات كالصلاة والعادات كالبيع ، فكانوا بهذا مسلمين بعد أن كانوا مؤمنين ، فاشتروا الآخرة بالدنيا ، فلم يلههم التكاثر ، ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية ، فلم يلقهم شيء من الخسر .
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره ، وحينئذ يكون وارثاً ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل ، وكان الدين لا يقوم ، وإذا قام لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الناشىء عن نور القلب ، ولا يتأتى ذلك إلا بالاجتماع ، قال مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة تنبيهاً على عظمه : { وتواصوا } أي أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال أو المقال : { بالحق } أي الأمر الثابت ، وهو كل ما حكم الشرع بصحته فلا يصح بوجه نفيه من قول أو عمل أو اعتقاد أو غيره من فعل أو ترك ، فكانوا محسنين ، والتكميل في القوة العملية باجتلاب الخيور .
ولما كان الإنسان ميالاً إلى النقصان ، فكان فاعل ذلك الإحسان معرضاً للشنآن من أهل العدوان ، وهم الأغلب في كل زمان ، قال تعالى : { وتواصوا } لأن الإنسان ينشط بالوعظ وينفعه اللحظ واللفظ { بالصبر } أي الناشىء عن زكاة النفس على العمل بطاعة الله من إحقاق الحق وإبطال الباطل والنفي له والمحق ، وعلى ما يحصل بسبب ذلك من الأذى باجتناب الشرور إلى الممات الذي هو سبب موصل إلى دار السلام ، فكانوا مكملين للقوة العملية ، حافظين لما قبلها من العلمية ، وذلك هو حكمة العبادات ، فإن حكمة الشيء هي الغاية والفائدة المقصودة منه ، وهي هنا أمران : خارج عن العامل وهو الجنة ، وداخل قائم به وهو النور المقرب من الحق سبحانه وتعالى ، واختير التعبير بالوصية إشارة إلى الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعمال اللين بغاية الجهد ، والصبر هو خلاصة الإنسان وسره وصفاوته وزبدته وعصارته الذي لا يوصل إليه إلا بضغط الإنسان لنفسه ، وقسرها على أفعال الطاعة ، وقهرها على لزوم السنة والجماعة ، حتى يصير الصبر لها بالتدريب عادة وصناعة ، فقد عانق آخرها أولها ، وواصل مفصلها موصلها ، وهي أربع عشرة كلمة تشير إلى أن في السنة الرابعة عشرة من النبوة يكون الإذن في الجهاد الذي هو رأس الأمر بالمعروف بالفعل لإظهار الحق ، وهي سنة الهجرة التي تم فيها بدره ، وعم نوره وقدره ، وجم عزه ونصره ، فإذا ضممت إليها أربع كلمات البسملة كانت موازية في العدد لسنة خمس من الهجرة ، وكان فيها غزوة بدر الموعد وغزوة الأحزاب ، وقد وقع فيهما أتم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ممن وافقه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لإظهار الحق والصواب ، فإنهم في بدر خذلوا من ركب عبد القيس أو من نعيم بن مسعود وموافقة المنافقين ، وخوفوا حتى كاد يعمهم الرعب والفشل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والله لأخرجن ، ولو لم يخرج معي أحد " ، وأنزل الله فيها{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا }[ آل عمران : 173 ] الآيات ، وفي الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وأسفرت عاقبة الصبر فيها عما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابهم : " الآن نغزوهم ولا يغزوننا " ، فإذا ضممت إليها الضمائر الأربعة أشارت إلى سنة تسع ، وقد كانت فيها غزوة تبوك ، وهي غزوة العسرة لما كان فيها من الشدة التي أسفرت عاقبة الصبر فيها عن إقبال الوفود ، بفخامة العز والجدود ، وتواتر السعود ، بلطف الرحيم الودود ، وبذلك كان نور الوجود ، وتواتر الفضل والجود من الإله المعبود . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خيار الوجود .