تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

المفردات :

ووصينا : أرشدنا وأمرنا وألزمنا وبينا له الطريق القويم ليسلكه ، وهو بر والديه .

إحسانا : أن يفعل معهما فعلا ذا حسن .

كرها : فعلا ذا كره ومشقة وتعب في الحمل والوضع .

وفصاله : الفصال : الفطام ، وهو مصدر ( فاصل ) ، فكأن الولد فاصل أمه ، والأم فاصلته .

أشده : كمال عقله وقوته ورشده .

أوزعني : ألهمني ووفقني ورغبني .

التفسير :

15- { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .

تكررت وصايا القرآن الكريم بالوالدين ، وجعل هذه الوصية بعد عبادة الله تعالى ، وخص القرآن الأم بمزيد من العناية بسبب العناء الذي تحملته في الحمل والولادة والرضاعة والفصال والرعاية .

{ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . . . }

ألزمنا وأمرنا وأرشدنا الإنسان أيا كان ، بإكرام والديه وبرّهما ، ورعايتهما والإحسان إليهما ، ودفع الأذى عنهما ، وعدم إيذائهما أي إيذاء .

وقد ورد أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، حيث أسلم والداه جميعا ، وأسلم أولاده ، ورأى أولاده النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا جميعا ، ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .

وقيل إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص .

ونلاحظ مع ذلك أن الآية عامة في كل إنسان ملتزم ، وأن العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ثم خص القرآن الأم بمزيد عناية ، فقال :

{ حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا . . . }

ما أشق آلام الحمل والوضع والكفالة والرضاع والفصال ، بمجرد أن يتم تلقيح الحيوان المنوي لبويضة الأنثى ، فإنها تسعى للالتصاق بجدار الرحم ، وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ، فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ، وتمتصه لتحيا به وتنمو ، والأم تأكل وتشرب ثم تعطي محلول أكلها وعظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ، وهذا كله قليل من كثير ، فالحمل ومدته الطويلة وآلامه ومشقاته ، والولادة ومشقاتها ، والرضاع وفيه يمتص الوليد خلاصة دم الأم ، ويرضع اللبن من أمه ، ويستمد منها كل عافيته وهذا معنى : { حملته أمه كرها } . قاست في حمله مشقة وتعبا ، من وحم وغثيان وثقل وكرب ، { ووضعته كرها } . حيث قاست آلام الطلق وشدته ، ووجع الولادة وآلامها .

{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا . . . }

أي : مدة حمله ورضاعه ورعايته ثلاثون شهرا ، عامان ونصف عام ، كلها عطاء حسي ومعنوي ، وعناء السهر والغذاء ، والتنظيف والتربية ، بمحبة وحنان ، دون ضجر ولا سأم ، ولذلك تأكد حق الأم ، وتقدم على حق الأب ، لأن الأم أكثر عطاء .

أخرج البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أبوك )19 .

{ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة . . . }

حتى إذا تناهى عقله ورشده وقوته في الفترة من الثلاثين إلى الأربعين ، ويكمل الأشد ببلوغ الأربعين ، لذلك قيل : إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين ، إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام .

{ قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي . . . }

هو إنسان مؤمن مخلص ملتزم قد امتد عمره إلى كماله وقوته ، فمد يده إلى الله طالبا توفيقه وعنايته وفضله ، في أن يلهمه الله شكره على النعم التي أنعم بها عليه وعلى والديه ، من الهداية إلى الحق والتوحيد ، وغير ذلك من نعم الدنيا ، كسلامة العقل والصحة والعافية ، وسعة العيش وحنان الأبوين حين عطائهما وتربيتهما ، ومن نعم الآخرة مثل الهداية والتوفيق .

{ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي . . . }

وفقني يا رب للعمل الصالح الذي يرضيك وتقبله ، فنعم العمل إذا كان في مرضاة الله ، وإذا حظي بالتوفيق والقبول ، ويمتد الدعاء إلى الذرية وتوفيق الله لها فيقول : { وأصلح لي في ذريتي . . . }

أي : اجعل الصلاح والتوفيق والهداية في ذريتي ، اجعلها صالحة نافعة ملتزمة تسير في الطريق المستقيم .

{ إني تبت إليك وإني من المسلمين } .

إني رجعت إليك تائبا منيبا ، نادما على ما فرطت في جنب الله ، وإني من المسلمين المنقادين لطاعتك ، الملتزمين بأوامرك ، الخاضعين لربوبيتك .

قال ابن كثير : وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ، ويعزم عليها .

قال شيخ زادة في حاشيته على تفسير البيضاوي :

طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء :

الأول : أن يوفقه الله للشكر على النعمة .

الثاني : أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عنده تعالى .

الثالث : أن يصلح له في ذريته ، وهذه كمال السعادة البشرية . اه .

من تفسير ابن كثير

روى الحافظ الموصلي ، عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه ، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله في أرضه )20 .

أقل مدة الحمل

استدل العلماء بهذه الآية الكريمة مع قوله تعالى في سورة البقرة : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . . . } ( البقرة : 233 ) .

على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين ، واستشهد ابن كثير بما رواه محمد بن إسحاق ، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فذكر لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فأمر عثمان برجمها ، فبلغ ذلك عليا ، فقال لعثمان : أما تقرأ القرآن ؟ فقال : بلى ، قال : أما سمعت الله عز وجل يقول : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } . وقال : { حولين كاملين } . فما نجده بقي إلا ستة أشهر ، قال عثمان : والله ما فطنت لهذا .

وروى ابن كثير أن قوما نالوا من عثمان رضي الله عنه ، ثم سألوا عليا عن عثمان ، فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى عنهم : { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } . ( الأحقاف : 16 ) .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

وصّينا الإنسان : أمرناه أن يفعل كذا . . ومثله أوصاه .

كُرها : بضم الكاف وفتحها : مشقة .

حَمْله وفصاله : مدة حَمْلِه وفطامه .

أشده : صار بالغا مستحكما القوة والعقل .

أوزِعني : ألهِمني ، رغّبني ، وفقني .

أصلحْ لي في ذريتي : اجعل لي خلَفاً صالحا .

ثم تأتي الوصيّة بالوالدَين ، وقد وردت التوصية بهما في غير آيةٍ لِما للوالدَين من منزلةٍ كبيرة وكريمة في وجود الإنسان .

ووصّينا الإنسانَ بأن يحسِن إلى والديه ويبرَّهما في حياتهما وبعد مماتهما ، وخصَّ الأمَّ بالكلام لأنها تقاسي في حمله مشقةً وتعبا ، وفي وضعه آلاماً كثيرة ، ثم في إرضاعه وتربيته . فالطفلُ يقضي معظم وقتِه مع أمهِ ، وفي رعايتها وحنانها وعطفها . . لهذا كلّه تستحقّ الكرامةَ وجميل الصحبة والبر العظيم . وقد وردت أحاديث كثيرة تحثّ على بِرّ الأمهات .

روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمَّكَ ثم أمك ثم أمك ، ثم أباك » ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية بن حيدة .

وهناك حديث مشهور : « الجنّةُ تحت أقدام الأمهات » رواه الخطيب والقضاعي عن أنسٍ رضي الله عنه ، وروي أيضاً عن ابنِ عباس رضي الله عنه .

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال لرجلٍ يسأله عن حقوق الوالدين : «هما جنَّتاك ونارك » وفي البخاري ومُسْلم والترمذي : « أحقُّ الناسِ بالصحبة الأم » والأحاديثُ كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتب الحديث .

{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }

يعني أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا ، تكابد الأم فيها الآلامَ الجسمية والنفسية ، فتسهَرُ الليالي العديدةَ على طفلها ، وتغذّيه وتقوم بجميع شئونه بلا ضَجَر ولا ملل .

ويؤخذ من هذه الآية { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } ومن الآية : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] أنّ أقلَّ مدة الحمل ستةُ أشهرٍ فإذا ولدت امرأة ولداً بعد ستة أشهر من دخولها في عصمة الزوج يُعترف به .

حتى إذا بلغ كمالَ قوّته وعقله ببلوغه أربعين سنةً ، ويكون في كامل قواه الجسمية والعقلية ، يقول عندها : ربِّ ألهِمني شُكرَ نعمتك التي تفضّلتَ بها عليّ وعلى والديّ ، ووفقني إلى العمل الصالحِ الذي ترضاه ، وارزقني ذريةً صالحة تسير على درب الهدى والإيمان ، إني تُبت إليك من كلّ ذنب { وَإِنِّي مِنَ المسلمين } المستسلمين لأمرِك ونَهيك .

قراءات :

قرأ أهل الكوفة : إحسانا وقرأ الباقون : حسنا . وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو عمرو : كَرها بفتح الكاف . والباقون : كُرها بضمها وهما لغتان . وقرأ يعقوب : وفصله ، والباقون : وفصاله . وهما لغتان .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

ولما تفضل سبحانه وتعالى على الإنسان بعد الأعمال التي هيأه لها وأقدره عليها ووفقه لها أسباباً قرن بالوصية بطاعته - لكونه المبدع - الوصية بالوالدين لكونه تعالى جعله سبب الإيجاد ، فقال في هذا السياق الذي {[58715]}عد فيه{[58716]} الأعمال لكونه{[58717]} سياق الإحسان التي أفضلها الصلاة على ميقاتها ، وثانيها في الرتبة بر الوالدين كما في الصحيح{[58718]} ، وفي الترمذي{[58719]} : " رضى الله{[58720]} في رضى الوالدين و{[58721]}سخطه {[58722]}في سخطهما{[58723]} " وعلى هذا المنوال جرت عادة القرآن يوصي بطاعة الوالدين بعد الأمر بعبادته{ وإذ {[58724]}أخذ الله{[58725]} ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً- }[ البقرة : 83 ] { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً{[58726]} }[ النساء : 36 ] وكذا ما بعدهما{[58727]} عاطفاً على ما قدرته أول السورة من نحو{[58728]} أن يقال : وأمرنا الناس أجميعن أن يكونوا بطاعتنا في مهلة الأجل عاملين ولمعصيتنا مجتنبين : { ووصينا الإنسان } أي هذا النوع الذي أنس بنفسه { بوالديه } ولما استوفى { وصى } مفعوليه{[58729]} كان التقدير : ليأتي إليهما حسناً ، وقرأ الكوفيون : { إحساناً } وهو أوفق للسياق .

ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره ، وذكر ما للأم لأن أمده يسير ، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو{[58730]} معللاً : { حملته أمه } أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها ، حملاً { كرهاً } بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه { ووضعته } أي بعد تمام مدة حمله { كرهاً } فدل{[58731]} هذا - مع دلالته على وجوب حق الأم - على أن الأمر في تكوينه لله وحده ، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى : { وحمله وفصاله } أي و-{[58732]}مدة حمله وغاية فطامه{[58733]} من الرضاع ، وعبر بالفصال لإرادة النهاية لأن الفطام قد يكون قبل النهاية لغرض ثم تظهر الحاجة فتعاد الرضاعة { ثلاثون شهراً } فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وبه قال الأطباء ، وربما {[58734]}أشعر{[58735]} بأن أقل مدة الرضاع سنة وتسعة أشهر لأن أغلب الحمل تسعة أشهر .

ولما كان ما بعد ذلك تارة يشترك{[58736]} في مؤنته{[58737]} الأبوان وتارة ينفرد أحدهما ، طوي ذكرهما ، وذكر حرف الغاية مقسماً للموصي{[58738]} إلى قسمين : مطيع وعاصي ، ذاكراً ما لكل من الجزاء بشارة ونذارة ، إرشاداً إلى أن المعنى : واستمر كلاًّ على أبويه أو أحدهما { حتى{[58739]} إذا بلغ أشده } قال في القاموس : قوته ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين ، واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدة بالكسر مع أن-{[58740]} فعلة لا{[58741]} تجمع على أفعل ، أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب ، وما هما{[58742]} بمسموعين بل قياس - انتهى{[58743]} ، وقد مضى في سورة يوسف ما ينفع هنا جداً{[58744]} ، وروى الطبراني{[58745]} في ترجمة ابن-{[58746]} أحمد بن لبيد البيروتي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، {[58747]}وهو الذي{[58748]} رفع عليه{[58749]} عيسى ابن مريم - قال{[58750]} الهيثمي : وفيه صدقة بن يزيد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم وضعفه أحمد وجماعة وبقية رجاله ثقات ، قال الزمخشري{[58751]} : وهو أول الأشد وغايته الأربعون .

ولما كانت أيام الصبى والشباب وإن كانت صفوة عمر الإنسان وأوقات لذاذته{[58752]} ومجتمع شمله وراحاته فيها يظهِر له سر عمره في الغالب لغلبة الأنفس الخبيثة عليه البهيمية والسبعية لما يحملانه{[58753]} عليه من نتائج الشهوات ونوازع الغضب والبطالات ، عبر بما يدل على القحط والشؤم والضيق تنبيهاً على ذلك ، فقال شارحاً للاستواء ومعبراً عنه : { وبلغ أربعين سنة }-{[58754]} فاجتمع أشده {[58755]}وتم حزمه{[58756]} وجده ، وزالت عنه شرة{[58757]} الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل ، ولذلك كان هذا السن وقت بعثة الأنبياء ، وهو يشعر بأن أوقات الصبى أخف{[58758]} في المؤاخذة{[58759]} مما بعدها وكذا ما بين أول الأشد{[58760]} والأربعين { قال } إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه : { رب } أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد وتيسير{[58761]} الأبوين وغيرهما وتسخيره { أوزعني } أي اجعلني أطيق { أن أشكر نعمتك } أي وازعاً للشكر{[58762]} أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات ، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق ، ووحدها تعظيماً للأمر بالإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يبلغ شكرها إلا بمعونة الله مع أن ذكر الأبوين يعرف أن المراد بها الجنس .

ولما كان ربما ظن ظان{[58763]} أن المراد بنعمته قدرته على الإنعام ليكون المعنى : أن أشكر لك لكونك قادراً على الإنعام ، قال{[58764]} : { التي أنعمت عليّ } أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي { وعلى والديّ } ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن ، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ ، وقد مضى في النمل ما يتعين استحضاره هنا .

ولما كان المقصود الأعظم من النعمة الماضية نعمة الإيجاد المراد من شكرها التوحيد ، أتبعها تمام-{[58765]} الشكر فقال : { وأن أعمل } أي-{[58766]} أنا في خاصة نفسي { صالحاً }-{[58767]} . ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال : { ترضاه } والتنكير{[58768]} إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن{[58769]} يقّدر الله حق قدره أحد .

ولما دعا{[58770]} لنفسه بعد أن أوصى برعاية حق أبيه ، لقنه{[58771]} سبحانه الدعاء لمن يتفرع منه{[58772]} ، حثاً على رعاية حقوقهم لئلا يسلطهم على عقوقه فقال : { وأصلح } أي أوقع الإصلاح ، وقال : { لي في ذريتي } لأن صلاحهم يلحقه نفعه ، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سارياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين .

ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعاً فدعا ، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة ، علله بقوله : { إني تبت } أي رجعت { إليك } أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك ، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد {[58773]}منه الإقلاع فينكر{[58774]} إخباره به ، وكذا قوله : { وإني من المسلمين * } أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك{[58775]} فانقادوا أتم انقياد {[58776]}وأحسنه{[58777]} .


[58715]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فيه عد.
[58716]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فيه عد.
[58717]:زيد من ظ و م ومد.
[58718]:راجع أبواب مواقيت الصلاة.
[58719]:راجع أبواب البر.
[58720]:زيد في الأصل و ظ: عنه، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[58721]:زيد في الأصل و ظ :في، ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58722]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: وفي سخطها.
[58723]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: وفي سخطها.
[58724]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أخذنا.
[58725]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أخذنا.
[58726]:زيد من م ومد.
[58727]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: بعد هنا.
[58728]:زيد من م ومد.
[58729]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: معموليه.
[58730]:من ظ و م ومد، وفي الأصل "و".
[58731]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بدل.
[58732]:زيد من مد.
[58733]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فصاله.
[58734]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أشعر أن.
[58735]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أشعر أن.
[58736]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: يستندل.
[58737]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: مؤنة.
[58738]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: موص.
[58739]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فصاله.
[58740]:زيد من م ومد.
[58741]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: على.
[58742]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:هم.
[58743]:زيد في الأصل: وبلغ أربعين سنة، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58744]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: جيد.
[58745]:راجع لقول ابن عباس مجمع الزوائد7/106.
[58746]:زيد من ظ و م ومد.
[58747]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: هي التي.
[58748]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: هي التي.
[58749]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: عليها.
[58750]:زيد في الأصل: الحافظ ابن حجر، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[58751]:في الكشاف
[58752]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: لذاذته.
[58753]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: يحملان.
[58754]:زيد من م ومد.
[58755]:من م ومد، وفي الأصل: بلغ حرمه، وفي ظ: بلغ حزمه.
[58756]:من م ومد، وفي الأصل: بلغ حرمه، وفي ظ: بلغ حزمه.
[58757]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: شدة.
[58758]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أخذ.
[58759]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: الموجدة.
[58760]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: الاشداد.
[58761]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: تيسر.
[58762]:من مد، وفي الأصل و ظ و م: الكر.
[58763]:سقط من ظ و م ومد.
[58764]:زيد في الأصل و ظ: تعالى، ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[58765]:زيد من م ومد.
[58766]:زيد من ظ و م ومد.
[58767]:من ظ و م ومد.
[58768]:من ظ و م، وفي الأصل ومد: الشكر.
[58769]:من ظ و م ومد، وفي الأصل:لأن.
[58770]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: ادعى.
[58771]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لفت.
[58772]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: من هذا المواد بعد ذلك فقال تعالى.
[58773]:من م ومد، وفي الأصل: عنه الإقبال فينكره، وفي ظ:عنه الاقلاع فينكره.
[58774]:من م ومد، وفي الأصل: عنه الإقبال فينكره، وفي ظ:عنه الاقلاع فينكره.
[58775]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لكم.
[58776]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[58777]:سقط ما بين الرقمين من ظ وم ومد.