{ وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا 8 وأنّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا 9 وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا 10 وأنّا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك كنا طرائق قددا 11 وأنّا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا 12 وأنّا لمّا سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا 13 وأنّا منا المسلمون ومنّا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشدا 14 وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا 15 وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا 16 لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا 17 }
وأنا لمسنا السماء : طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا .
حرسا : الحرس والحراس واحدهم حارس ، وهو الرقيب .
8- وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا .
أي : طلبنا بلوغ السماء ، والتنصت على أخبارها كما كنّا نفعل في الجاهلية ، فوجدنا السماء قد ملئت بالحرّاس الأشداء من الملائكة ، التي تمنع الجن من استراق السمع والتقاط أخبار السماء ونقلها إلى الكهّان فيزيد الكاهن على الكلمة الواحدة تسعا ، فيصدق في كلمة ويكذب في الباقي ، فإذا عيّروه بالكذب ، وعدم تحقق ما قاله ، أجاب الكاهن : ألم أخبركم بشأن كذا يوم كذا ، وقد صدق ؟
وإذا حمل الجنيّ خبر السماء ، وأفلت من حراسة الملائكة تبعه شهاب من نيران الكواكب ، يقتله أو يخبله ، ويمنعه من نقل أسرار السماء .
وفي الأحاديث النبوية الصحيحة ما يفيد أن الجن كانت ترصّ بعضها فوق بعض ، فيضع الجني أقدامه فوق كتف الأوّل ، ويضع الثالث أقدامه فوق كتف الثاني وهكذا ، حتى يستطيع آخر جنّي أن يسمع خبر السماء ، وأن يتنصت على كلام الملائكة ، تقول لبعضها مثلا : قضى الليلة بموت فلان ، أو نصر فلان ، فينقل الجنّي الخبر إلى الكهّان ، فيكذب الكاهن مع الكلمة تسعا ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء ، فمن أراد أن يقعد في مكان قريب من السماء لاستراق السمع ، منعه الحرّاس وأحرقته الشهب بنيرانها لا تتخطاه ، والغرض من ذلك حفظ الوحي والقرآن الكريم من استراق الشياطين .
قوله تعالى : " وأنا لمسنا السماء " هذا من قول الجن ؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا " فوجدناها " قد " ملئت حرسا شديدا " أي حفظة ، يعني الملائكة . والحرس : جمع حارس " وشهبا " جمع شهاب ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع . وقد مضى القول فيه في سورة " الحجر " {[15450]} " والصافات{[15451]} " . و " وجد " يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين ، فالأول الهاء والألف ، و " ملئت " في موضع المفعول الثاني . ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون " ملئت " في موضع الحال على إضمار قد . و " حرسا " نصب على المفعول الثاني " بملئت " . و " شديدا " من نعت الحرس ، أي ملئت ملائكة شدادا . ووحد الشديد على لفظ الحرس ؛ وهو كما يقال : السلف الصالح بمعنى الصالحين ، وجمع السلف أسلاف{[15452]}وجمع الحرس أحراس ، قال{[15453]} :
ولما كان عدم البعث من خلل في القدرة ، شرعوا في إثبات تمام القدرة على وجه{[69055]} دال على صحة القرآن وحراسته من الجان ، لئلا يظن أنه من نحو ما للكهان ، فقالوا مؤكدين في قراءة الكسر لاستبعاد الوصول إلى السماء حثاً على طلب المهمات وإن بعد مكانها : { وإنا } ولما كان يعبر عن الإمعان في التفتيش بالالتماس ، وكان تجريد الفعل أعظم من ذلك للدلالة على الخفة وعدم الكلفة قال : { لمسنا السماء } أي الدنيا التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا لاستماع ما يغوى به الإنسان التماساً هو كالحس باللمس باليد { فوجدناها } من جميع نواحيها وهو من الوجدان { ملئت } أي ملأً هو في غاية السهولة والخفة على فاعله { حرساً } أي حراساً اسم جمع ، فهو مفرد اللفظ ، ولذلك وصف بقوله : { شديداً } أي بالملائكة { وشهباً * } جمع سهاب وهو المتوقد من النار ، فعلت هممهم حتى طلبوا المهمات الدنيوية والشهوات النفسانية من مسيرة{[69056]} خمسمائة سنة صعوداً ، فأفّ لمن يكسل عن{[69057]} مهمات الدين المحققة من مسيرة ساعة أو دونها ، وأن يقعد في مجلس العلم ساعة أو دونها ، والتعبير بالملأ يدل على أنها كانت قبل ذلك{[69058]} تحرس لكن لا على هذا{[69059]} الوجه فقيل : إنها حرست لنزول التوراة ثم اشتد الحرس للانجيل ثم ملئت لنزول القرآن فمنعوا من الاستماع أصلاً إلا ما يصدق القرآن إرهاصاً للنبوة العظمى الخاتمة لئلا يحصل بهم{[69060]} نوع لبس .
قوله تعالى : { وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشبها 8 وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا 9 وأنا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } .
ذلك إخبار من الله عن الجن حين بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم للعالمين وأنزل عليه القرآن وكان من حفظ الله لكتابه الحكيم أن السماء قد ملئت حرسا وشهبا من كل أرجائها وطردت منها الشياطين كيلا يسترقوا شيئا من أخبار السماء فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر على الناس ويختلط ، فلا يدرون الصادق من الكاذب .
وهو قوله : { وأنا لمسنا السماء } وهذا من قول الجن . يعني طلبنا أخبار السماء كما كنا نطلبها في العادة { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } جملة { ملئت } في موضع نصب على الحال . وحرسا ، مفعول ثان لملئت ، وهو جمع ومفرده حارس . يعني ملئت السماء من سائر أطرافها وأنحائها حراسا من الملائكة أشداء أقوياء يحفظونها من استراق الشياطين { وشبها } جمع شهاب وهو الشعلة الساطعة من النار{[4654]} فقد كانت الملائكة ترجمهم بالشهب الحارقة منعا لهم من الاستماع . أو كانت تنقضّ عليهم قذائف من نار الكواكب لتحرقهم وتحول بينهم وبين استراق السمع .