تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

المفردات :

ووصينا : أرشدنا وأمرنا وألزمنا وبينا له الطريق القويم ليسلكه ، وهو بر والديه .

إحسانا : أن يفعل معهما فعلا ذا حسن .

كرها : فعلا ذا كره ومشقة وتعب في الحمل والوضع .

وفصاله : الفصال : الفطام ، وهو مصدر ( فاصل ) ، فكأن الولد فاصل أمه ، والأم فاصلته .

أشده : كمال عقله وقوته ورشده .

أوزعني : ألهمني ووفقني ورغبني .

التفسير :

15- { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .

تكررت وصايا القرآن الكريم بالوالدين ، وجعل هذه الوصية بعد عبادة الله تعالى ، وخص القرآن الأم بمزيد من العناية بسبب العناء الذي تحملته في الحمل والولادة والرضاعة والفصال والرعاية .

{ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . . . }

ألزمنا وأمرنا وأرشدنا الإنسان أيا كان ، بإكرام والديه وبرّهما ، ورعايتهما والإحسان إليهما ، ودفع الأذى عنهما ، وعدم إيذائهما أي إيذاء .

وقد ورد أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، حيث أسلم والداه جميعا ، وأسلم أولاده ، ورأى أولاده النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا جميعا ، ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .

وقيل إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص .

ونلاحظ مع ذلك أن الآية عامة في كل إنسان ملتزم ، وأن العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ثم خص القرآن الأم بمزيد عناية ، فقال :

{ حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا . . . }

ما أشق آلام الحمل والوضع والكفالة والرضاع والفصال ، بمجرد أن يتم تلقيح الحيوان المنوي لبويضة الأنثى ، فإنها تسعى للالتصاق بجدار الرحم ، وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ، فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ، وتمتصه لتحيا به وتنمو ، والأم تأكل وتشرب ثم تعطي محلول أكلها وعظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ، وهذا كله قليل من كثير ، فالحمل ومدته الطويلة وآلامه ومشقاته ، والولادة ومشقاتها ، والرضاع وفيه يمتص الوليد خلاصة دم الأم ، ويرضع اللبن من أمه ، ويستمد منها كل عافيته وهذا معنى : { حملته أمه كرها } . قاست في حمله مشقة وتعبا ، من وحم وغثيان وثقل وكرب ، { ووضعته كرها } . حيث قاست آلام الطلق وشدته ، ووجع الولادة وآلامها .

{ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا . . . }

أي : مدة حمله ورضاعه ورعايته ثلاثون شهرا ، عامان ونصف عام ، كلها عطاء حسي ومعنوي ، وعناء السهر والغذاء ، والتنظيف والتربية ، بمحبة وحنان ، دون ضجر ولا سأم ، ولذلك تأكد حق الأم ، وتقدم على حق الأب ، لأن الأم أكثر عطاء .

أخرج البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( أبوك )19 .

{ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة . . . }

حتى إذا تناهى عقله ورشده وقوته في الفترة من الثلاثين إلى الأربعين ، ويكمل الأشد ببلوغ الأربعين ، لذلك قيل : إنه لم ينبأ نبي قبل الأربعين ، إلا ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام .

{ قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي . . . }

هو إنسان مؤمن مخلص ملتزم قد امتد عمره إلى كماله وقوته ، فمد يده إلى الله طالبا توفيقه وعنايته وفضله ، في أن يلهمه الله شكره على النعم التي أنعم بها عليه وعلى والديه ، من الهداية إلى الحق والتوحيد ، وغير ذلك من نعم الدنيا ، كسلامة العقل والصحة والعافية ، وسعة العيش وحنان الأبوين حين عطائهما وتربيتهما ، ومن نعم الآخرة مثل الهداية والتوفيق .

{ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي . . . }

وفقني يا رب للعمل الصالح الذي يرضيك وتقبله ، فنعم العمل إذا كان في مرضاة الله ، وإذا حظي بالتوفيق والقبول ، ويمتد الدعاء إلى الذرية وتوفيق الله لها فيقول : { وأصلح لي في ذريتي . . . }

أي : اجعل الصلاح والتوفيق والهداية في ذريتي ، اجعلها صالحة نافعة ملتزمة تسير في الطريق المستقيم .

{ إني تبت إليك وإني من المسلمين } .

إني رجعت إليك تائبا منيبا ، نادما على ما فرطت في جنب الله ، وإني من المسلمين المنقادين لطاعتك ، الملتزمين بأوامرك ، الخاضعين لربوبيتك .

قال ابن كثير : وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ، ويعزم عليها .

قال شيخ زادة في حاشيته على تفسير البيضاوي :

طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء :

الأول : أن يوفقه الله للشكر على النعمة .

الثاني : أن يوفقه للإتيان بالطاعة المرضية عنده تعالى .

الثالث : أن يصلح له في ذريته ، وهذه كمال السعادة البشرية . اه .

من تفسير ابن كثير

روى الحافظ الموصلي ، عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه ، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله في أرضه )20 .

أقل مدة الحمل

استدل العلماء بهذه الآية الكريمة مع قوله تعالى في سورة البقرة : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . . . } ( البقرة : 233 ) .

على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين ، واستشهد ابن كثير بما رواه محمد بن إسحاق ، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فذكر لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فأمر عثمان برجمها ، فبلغ ذلك عليا ، فقال لعثمان : أما تقرأ القرآن ؟ فقال : بلى ، قال : أما سمعت الله عز وجل يقول : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } . وقال : { حولين كاملين } . فما نجده بقي إلا ستة أشهر ، قال عثمان : والله ما فطنت لهذا .

وروى ابن كثير أن قوما نالوا من عثمان رضي الله عنه ، ثم سألوا عليا عن عثمان ، فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى عنهم : { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } . ( الأحقاف : 16 ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

{ 15-16 } { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }

هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف والكلام اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الإحسان .

ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة ، وليست المذكورات مدة يسيرة ساعة أو ساعتين ،

وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلَاثُونَ شَهْرًا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو الغالب .

ويستدل بهذه الآية مع قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع -وهي سنتان- إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل ، { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : نهاية قوته وشبابه وكمال عقله ، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : نعم الدين ونعم الدنيا ، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله ، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها ، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم .

{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده ، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه . { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } لما دعا لنفسه بالصلاح دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم ، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله : { وَأَصْلِحْ لِي }

{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

قوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين 15 أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون } .

هذه آيات بينات يوصي الله فيهن بالوالدين إحسانا . وفي ذلك من بالغ التكريم والتعظيم للآباء والأمهات ما ليس له في الملل والعقائد والفلسفات نظير . وذلكم هو القرآن الحكيم بآياته العجاب ، وإعجازه الباهر ، وأسلوبه المميز الفذ ، يحرض على الاهتمام بالوالدين ، ببذل الخير والتبجيل لهما ، ودفع الأذى والشر وكل وجوه الإساءة عنهما ، وذلك ليتبوأ الوالدان في كنف الأولاد خير منزلة من منازل الاحترام والإكرام والتقدير : وأيما إساءة بعد ذلك أو بذاءة من لسان أو إهانة لأحدهما أو كلاهما فإنه فسق عن دين الله وعصيان لرب العباد .

وتكريم الوالدين يأتي في ذروة العبادات التي يتقرب بها العبد من ربه ، وذلك بجم التواضع لهما وعظيم الإحسان إليهما وأرقى الدرجات من التأدب في مخاطبتهما . وإذا لم يكن المرء مع أبويه كذلك فيوشك حينئذ أن يهوي بنفسه في جهنم . وذلكم قوله سبحانه : { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } { إحسانا } منصوب على المصدر ، وتقديره : ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إحسانا{[4207]} فقد أمر الله الإنسان أن يحسن إلى والديه بالحنو عليهما والرأفة بهما وبتكريمهما . وفي سبب نزول هذه الآية روى أبو داود عن سعد ( رضي الله عنه ) قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ؟ فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا . ونزلت هذه الآية .

قوله : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } حملت الأم ولدها جنينا في بطنها في مشقة ووضعته لدى الولادة في مشقة ، وفي ذلك من شديد العسر والكرب والإيلام على الأمهات ما لا يخفى . ويراد بذلك ، التذكير بعظيم فضل الأم على ولدها لكي يحسن إليها ويحدب عليها بالغ الحدب وأن يبذل لها من وجوه التعظيم والاحترام ما يولجه في زمرة المؤمنين الصادقين .

قوله : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } أي أن مدة حمل الإنسان في بطن أمه ومدة فصاله وهو فطامه من الرضاع { ثلاثون شهرا } وبذلك فإن ثلاثين شهرا هي المدة من عند ابتداء الحمل إلى أن يفصل من الرضاع ، أي يفطم عنه .

ويستدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع الكامل سنتان لقوله سبحانه : { يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أ ن يتم الرضاعة } قال ابن عباس في ذلك ، إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا . وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا . وروي أن عثمان قد أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له علي ( رضي الله عنه ) : ليس ذلك عليها . قال الله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وقال تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } فالرضاع أربعة وعشرون شهرا ، والحمل ستة أشهر . فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها .

قوله : { حتى إذا بلغ أشده } الأشد ، واحد جاء على بناء الجمع . وقيل : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل ومذاكير{[4208]} . والأشد ، هو تناهي قوة المرء واختلفوا في مدة الأشد . فقد قيل : ثلاث وثلاثون سنة . وقيل : الحلم . وقيل : ثماني عشرة سنة { وبلغ أربعين سنة } وذلك تناهي عقل الإنسان واكتمال فهمه وحلمه وتدبيره .

روى الحافظ أبو يعلى بإسناده عن عثمان ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه . وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه الله تعالى في أهل بيته وكتب في السماء أسير الله في أرضه " .

قوله تعالى : { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } إذا بلغ المرء سن الأربعين وفيها يكتمل الفهم والتدبير والإرادة – دعا ربه أن ألهمني شكر نعمتك علي وعلى والدي بالهداية والتوفيق وغير ذلك من وجوه النعم .

قوله : { وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي } يعني وألهمني أن أعمل الصالحات التي ترضاها وأصلح لي أموري في ذريتي بأن تجعلهم صالحين مهديين عاملين بشرعك ، مبتغين مرضاتك .

قوله : { إني تبت إليك وإني من المسلمين } أي تبت إليك من ذنوبي التي سبقت مني في سالف أيامي وإني من المستسلمين لأمرك الخاضعين لك بالطاعة والإذعان .


[4207]:البيان لابن الأنباري جـ 2 ص 369.
[4208]:مختار الصحاح ص 332.