{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير }
مواخر : شاقات للماء حين جريانها .
سخر الشمس والقمر : ذللهما وأجراهما خاضعين لمشيئته .
قطمير : لفافة النواة وهي القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين الثمرة والنواة .
إيلاج الليل في النهار أي إدخاله فيه عند الغروب حيث يتلاشى الضياء شيئا فشيئا ويعم دبيب الظلام ويستولي على الكون كأنما الليل يدخل في النهار فيطمس الضوء ومثل ذلك إيلاج النهار في الليل عندما يسطع الفجر الصادق ويظهر الضوء في الأفق ويستمر الضياء في الظهور شيئا فشيئا حتى تطلع الشمس فكأنما النهار قد دخل في الليل وأخذ مكانه .
قال تعالى : والليل إذ أدبر* والصبح إذا أسفر* إنها إحدى الكبر . ( المدثر : 33-35 ) .
فهما حالتان تستوليان على القلب بحركة الظلام عند المساء وحركة الضياء عند الصباح فالفترة من المغرب إلى العشاء قرابة ساعة ونصف تقابلها الفترة من الفجر إلى طلوع الشمس كل منهما نهار يختلط بظلام الليل أو ظلام يختلط بضوء النهار وكل منهما فترة تمهيدية لما يأتي بعدها فلا هي ضوء خالص ولا هي ظلام خالص .
قال تعالى : فسبحانه الله حين تمسون وحين تصبحون . ( الروم : 17 ) .
وقال عز شانه : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومنءانائ الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى . ( طه : 130 ) .
والقرآن يلفت النظر على هذه المشاهد الكونية قبل الغروب وعند هجوم المساء وقبل الشروق وعند إقبال الصباح ، باعتبار أن ذلك آية تدل على عظمة الخالق فيقول المؤمن في الصباح والمساء سبحان الله رب العالمين .
ويشمل إيلاج الليل في النهار طول الليل في الشتاء حتى يصل إلى أربع عشرة ساعة ، كأنما الليل دخل في جزء من النهار واحتله كما يشمل إيلاج النهار في الليل طول النهار في الصيف حتى يصل إلى أربع عشرة ساعة ، وقصر الليل في الصيف حتى يصل إلى عشر ساعات كأنما النهار دخل في جزء من الليل زائدا عن اختصاصه والتعبير القرآني يشملهما معا ، ويطوف بالقلب البشري ليتحرك ويرى يد القدرة تحرك الليل وتمده في الشتاء وتحرك النهار وتمده في الصيف أو يشاهد تعاقب الليل والنهار في نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب ولا يختل يوما أو عاما على توالي القرون .
{ وسخر الشمس والقمر كل تجري لأجل مسمى . . . . } ذلل الله الشمس تجري أمام أعيننا نهارا في حركة دائبة لا تفتر من الشروق إلى الغروب في كل يوم وفي فصول السنة الأربعة لا تتخلف يوما عن الظهور ولا تتقدم ولا تتأخر وكذلك القمر يظهر في بداية كل شهر دقيقا رفيعا ثم يكبر قليلا قليلا حتى يصبح بدرا كاملا في منتصف الشهر خلال الليالي البيض 13-14-15 ، من الشهر العربي وتسمى الليالي البيض لشدة ضوء القمر فيها ويسن صيام نهارها شكرا لله القادر ثم يميل البدر إلى التناقص شيئا فشيئا حتى يصبح رفيعا كقوس صغير نراه على حرف الجريدة من النخل بعد أن تقطع من النخلة أو ( القحف ) الذي يدق و يستقوس ويصبح طرفه في هيئة الهلال الصغير .
قال تعالى : والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم* لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون . ( يس : 38-40 ) .
فكل من الشمس والقمر يجري في فلكه ويرسل نوره لأجل سماه الله وهو يوم القيامة أو هو مدة الدورة في كليهما فدورة القمر تستغرق شهرا قمريا ودورة الشمس تستغرق سنة شمسية ثم يعود كل منها لابتداء دورة جديدة .
{ ذالكم الله ربكم له الملك . . . } ذلكم هو الله الخالق البارئ المهيمن المقتدر الذي بيده ملك هذا الكون ، وحفظ توازنه ونظامه .
{ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . . . } والأصنام والأوثان أو الجن والملائكة أو عيسى والعزير أو غيرهم من الآلهة المدعاة لا يملكون قشرة نواة أي لا يملكون أي شيء في هذا الكون فمالكه هو الله وحده سبحانه وتعالى .
ومن ذلك أيضا ، إيلاجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما وينقص الآخر ، ويتساويان ، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم .
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ، الضياء والنور ، والحركة والسكون ، وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف{[744]} وغير ذلك مما هو من الضروريات ، التي لو فقدت لَلَحِقَ الناس الضرر .
وقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا ، فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما ، وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم .
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأصنام { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ولا كثيرا ، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء ، وهذا من تنصيص النفي وعمومه ، فكيف يُدْعَوْنَ ، وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات والأرض ؟
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} انتقاص كل واحد منهما من الآخر...
{وسخر الشمس والقمر} لبني آدم {كل يجري لأجل مسمى} كلاهما دائبان يجريان إلى يوم القيامة.
{ذلكم الله ربكم له الملك} فاعرفوا توحيده بصنعه.
{والذين تدعون} الذين تعبدون {من دونه} الأوثان {ما يملكون من قطمير} آية قشر النوى الذي يكون على النوى الرقيق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يدخل الليل في النهار، وذلك ما نقص من الليل أدخله في النهار فزاده فيه، ويولج النهار في الليل، وذلك ما نقص من أجزاء النهار زاد في أجزاء الليل، فأدخله فيها...
وقوله:"وسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرَي لأَجَلٍ مُسَمّى" يقول: وأَجْرى لكم الشمس والقمر نعمة منه عليكم، ورحمة منه بكم، لتعلموا عدد السنين والحساب، وتعرفوا الليل من النهار.
وقوله: "كُلّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّى "يقول: كل ذلك يجري لوقت معلوم...
وقوله: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ" يقول: الذي يفعل هذه الأفعال معبودكم أيها الناس الذي لا تصلح العبادة إلاّ له، وهو الله ربكم...
وقوله: "لَهُ المُلْكُ" يقول تعالى ذكره: له الملك التامّ الذي لا شيء إلاّ وهو في ملُكه وسلطانه.
وقوله: "وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ" يقول تعالى ذكره: والذين تعبدون أيها الناس من دون ربكم الذي هذه الصفة التي ذكرها في هذه الآيات الذي له المُلك الكامل، الذي لا يُشبهه ملك، صفته "ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ" يقول: ما يملكون قِشْر نواة فما فوقها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر هذا لأهل مكة لإنكارهم الصانع وإنكارهم البعث وإنكارهم الرسل لأنهم كانوا فرقا ثلاثا: منهم من يُنكر الصانع والتوحيد، ومنهم من ينكر البعث، ومنهم من ينكر الرسل. ففي الآية دلالة إثبات الصانع وتوحيده، وفيها دلالة البعث والإنشاء بعد الموت، وفيها دلالة إثبات الرسالة؛ أما دلالة إثبات الصانع والوحدانية ففي اتساق الليل والشمس والقمر وما ذكر وجريانها وجريان الأمور كلها على سنن وميزان واحد وقدر واحد، من أول ما كان إلى آخر ما يكون من غير زيادة أو نقصان يدخل فيه أو تقديم أو تأخير يكون فيه، يدل على أن لذلك كله صانعا مدبّرا أنشأ ودبّر كل شيء على ما كان.
ودل ذهاب الليل وتلفُه بكلّيته حتى لا يبقى له أثر، وكذلك ذهاب ضوء النهار ونوره، وكذلك الشمس والقمر، وإتيان الآخر بعد تلفه أنه بعث، إذ لو لم يكن بعث كان تدبير ذلك كله لعبا باطلا، وأن من قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، فإن ثبت ما ذكرنا أن يترك الله تعالى عباده سدى، لا يأمرهم، ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بأنواع المِحن؛ فلا بد من رسول يأمر وينهى ويُخبر عما لهم وعليهم.
{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قِطمير} يُسفّه أحلامهم في عبادة من عبدوا دونه على علم منهم أنهم [لا] يملكون ما ذكر، وصرفهم العبادة عن الله على علم منهم أن ذلك كله من الله وهو المالك لذلك...
{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}، وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما: أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني: الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى: {قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس} [الناس: 1-3] ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلها أي معبودا، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما: أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال: لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئا ولا ملكوا شيئا.
وثانيهما: أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق، لأنه لو خلق شيئا لملكه فإذا لم يملك قطميرا ما خلق قليلا ولا كثيرا.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج، واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه، وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً {لأِجَلٍ مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ.
وقرئ يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ. والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار، ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم لجريانهما إلى الأجل المعلوم، وكلها مشاهد تطوّف بالقلب في سكون، وتغمره بشعور من الروعة والتقوى؛ وهو يرى يد الله تمد هذا الخط، وتطوي ذاك الخط، وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط، وفي نظام دقيق مطرد لا يتخلف مرة ولا يضطرب، ولا يختل يوماً أو عاماً على توالي القرون.. وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للأجل المرسوم لهما، والذي لا يعلمه إلا خالقهما.. هو الآخر ظاهرة يراها كل إنسان، وقد ندرك نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لأول مرة، وليس هذا هو المهم؛ إنما المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم، وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم، وأن تثير فينا من التدبر ورؤية يد الله المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم، والحياة حياة القلوب.. وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدلالة القوية السلطان، يعقب بتقرير حقيقة الربوبية، وبطلان كل ادعاء بالشرك، وخسران عاقبته يوم القيامة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ذلكم الله ربكم له الملك} الله تعالى هو الذي بيده الملك والملكوت، وعنده خزائن السماوات والأرض، فهو الخالق والرازق والمدبر الذي يدبر الأمر، وما يتصرف فيه الإنسان -انطلاقا من نفسه التي بين جنبيه- إنما هو عارية مستردة على وجه الارتفاق والانتفاع، ولا يملك أحد- على وجه التحقيق -ملكية مطلقة، حتى القشرة الرقيقة البيضاء، التي تفصل بين التمرة والنواة...