إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ} (40)

وقوله عز وجل : { وَمِنْهُمُ } الخ ، وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع ، إذ حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [ البقرة : 23 ] أي ومن هؤلاء المكذبين { مَن يُؤْمِنُ بِهِ } عند الإحاطةِ بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقّيتِه بعد ما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوعَ ما أَخبر به كما أَخبر به مراراً ، ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدّق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف ، وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذي أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر { وَمِنْهُمْ مَّن لا يُؤْمِنُ بِهِ } أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدّق به ظاهراً لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلاً أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومِه من مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك ، وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة ، وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } [ يونس : 36 ] على التفسير الأول ، أو لا يؤمِن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاركاً ، وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل ، لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد ، أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجه الثاني من المعاندين والشاكين .