جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ} (57)

القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنّهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب نبيه : هاجِرُوا من أرض الشرك من مكة ، إلى أرض الإسلام المدينة ، فإن أرضي واسعة ، فاصبروا على عبادتي ، وأخلِصوا طاعتي ، فإنكم ميتون ، وصائرون إليّ ، لأن كل نفس حية ذائقة الموت ، ثم إلينا بعد الموت تُرَدّون . ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما أعدّ للصابرين منهم على طاعته ، من كرامته عنده ، فقال : والّذين آمنوا ، يعني صدّقوا الله ورسوله ، فيما جاء به من عند الله ، وعَمِلوا الصّالِحاتِ : يقول : وعملوا بما أمرهم الله فأطاعوه فيه ، وانتهوا عما نهاهم عنه لَنُبَوّئَنّهُمْ مِنَ الجَنّةِ غُرَفا يقول : لننزلنهم من الجنة عَلاليّ .

واختلفت القُرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : لَنُبَوّئَنّهُمْ بالباء وقرأته عامة قرّاء الكوفة بالثاء : «لَنُثْوِيَنّهُمْ » .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القُرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أن قوله : لَنُبَوّئَنّهُمْ من بوأته منزلاً : أي أنزلته ، وكذلك لنُثْوينهم إنما هو من أثويته مَسْكَنا إذا أنزلته منزلاً ، من الثواء ، وهو المُقام .

وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ يقول : تجرى من تحت أشجارها الأنهار . خالِدِينَ فِيها يقول : ماكثين فيها إلى غير نهاية نِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ يقول : نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرفُ التي يُثْوِيهُمُوها الله في جَنّاته ، تجري من تحتها الأنهار ، الذين صبروا على أذى المشركين في الدنيا ، وما كانوا يَلْقون منهم ، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه ، وجهاد أعدائه وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ في أرزاقهم وجهاد أعدائهم ، فلا يَنْكُلون عنهم ثقة منهم بأن الله مُعْلِي كلمته ، ومُوهِن كيد الكافرين ، وأن ما قُسم لهم من الرزق فلن يَفُوتَهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ} (57)

اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة : { والذين ءامنوا بالباطل } [ العنكبوت : 52 ] إلى آخرها ، والوعد الذي تضمنته جملة : { والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لنُبَوِّئَنَّهُم من الجنة غُرفاً } [ العنكبوت : 58 ] أي الموت مُدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله . وقصد منها أيضاً تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد ، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله .

وقرأ الجمهور { ترجعون } بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين في قوله { ياعبادي الذين ءامنوا } وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة تبعا لقوله { يغشاهم العذاب } .