القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رّبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ إلها ، سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ بتعجيل الله لهم ذلك ، وَذِلّةٌ وهي الهوان ، لعقوبة الله إياهم على كفرهم بربهم في الحَياةِ الدّنْيا في عاجل الدنيا قبل آجل الاَخرة . وكان ابن جريج يقول في ذلك بما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ قال : هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام ، ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا .
وهذا الذي قاله ابن جريج ، وإن كان قولاً له وجه ، فإن ظاهر كتاب الله مع تأويل أكثر أهل التأويل بخلافه وذلك أن الله عمّ بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا . وتظاهرت الأخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله ، إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام ، تاب على عَبَدة العجل من فعلهم ، بما أخبر به عن قيل موسى عليه السلام في كتابه ، وذلك قوله : وَإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ فَفعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فكان أمر الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفس بعض ، عن غضب منه عليهم بعبادتهم العجل ، فكان قتل بعضهم بعضا هوانا لهم وذلة أذّلهم الله بها في الحياة الدنيا ، وتوبة منهم إلى الله قِبَلها . وليس لأحد أن يجعل خبرا جاء الكتاب بعمومه في خاصّ مما عمه الظاهر بغير برهان من حجة خبر أو عقل ، ولا نعلم خبرا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ إلى باطن خاصّ ، ولا من العقل عليه دليل ، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه .
ويعني بقوله : وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ وكما جزيتُ هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها من إحلال الغضب بهم ، والإذلال في الحياة الدنيا على كفرهم ربهم ، وردتهم عن دينهم بعد إيمانهم بالله ، وكذلك نجزي كلّ من افترى على الله فكذب عليه وأقرّ بألوهية غيره وعبد شيئا سواه من الأوثان بعد إقراره بوحدانية الله ، وبعد إيمانه به وبأنبيائه ورسله وقِيلِ ذلك ، إذا لم يتب من كفره قبل قتله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، قال : تلا أبو قِلابة : سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا . . . الاَية ، قال : فهو جزاء كلّ مفتر يكون إلى يوم القيامة ، أن يذله الله عزّ وجلّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان عارم ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : قرأ أبو قلابة يوما هذه الاَية : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ وَذِلّةٌ فِي الحَياةِ الدّنْيا وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ قال : هي والله لكلّ مفتر إلى يوم القيامة .
قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت وحميد : أن قيس بن عباد وجارية بن قدامة دخلا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقالا : أرأيت هذا الأمر الذي أنت فيه وتدعو إليه ، أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته ؟ قال : مالكما ولهذا ؟ أعرضا عن هذا فقالا : والله لا نعرض عنه حتى تخبرنا . فقال : ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كتابا في قراب سيفي هذا . فاستلّه فأخرج الكتاب من قراب سيفه ، وإذا فيه : «إنّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيّ إلاّ لَهُ حَرَمٌ ، وإنّي حَرّمْتُ المَدِينَةَ كمَا حَرّمَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلامُ مَكّةَ ، لا يُحْمَلُ فِيها السّلاحُ لِقِتالٍ ، مَنْ أحْدَثَ حَدَثا أوْ آوَى مُحْدِثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أجَمعِينَ ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ » فلما خرجا قال أحدهما لصاحبه : أما ترى هذا الكتاب ؟ فرجعا وتركاه ، وقالا : إنا سمعنا الله يقول : إنّ الّذِينَ اتّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّهِمْ . . . الاَية ، وإن القوم قد افتروا فرية ، ولا أدري إلا سينزل بهم ذلة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : في قوله : وكذلكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ . قال : كل صاحب بدعة ذليل .
يجوز أن قوله : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى قوله : { الدنيا } من تمام كلام موسى ، فبعد أن دعا لأخيه بالمغفرة أخبر أن الله غضب على الذين عبدوا العجل . وأنه سيظهر أثر عضبه عليهم ، وستنالهم ذلة في الدنيا وذلك بوحي تلقاه ، وانتهى كلام موسى عند قوله : { في الحياة الدنيا } ، وأن جملة : { وكذلك نجزي المفترين } خطاب من جانب الله في القرآن ، فهو اعتراض والواو اعتراضية ذيل الله بهذا الاعتراض حكاية كلام موسى فأخبر بأنه يجازي كل مفتر بمثل ما أخبر به موسى عن مفتري قومه ، وأن جملة : { والذين عملوا السيئات } إلى آخر الآية تكملة للفائدة ببيان حالة أضداد المتحدث عنهم وعن أمثالهم .
ويجوز أن تكون جملة : { إن الذين اتخذوا العجل } إلى آخرها خطاباً من الله لموسى ، جواباً عن دعائه لأخيه بالمغفرة بتقدير فعللِ قول محذوف : أي قلنا إن الذين اتخذوا العجل إلى آخره ، مثل ما حكى الله تعالى عن إبراهيم في قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً } [ البقرة : 126 ] الآية .
والنول والنّيْل : الأخذُ وهو هنا استعارة للإصابة والتلبس كما في قوله تعالى : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } في هذه السورة ( 37 ) ، والذين اتخذوا العجل هم الذين عبدوه فالمفعول الثاني { لاتخذوا } محذوف اختصاراً ، أي اتخذوه إلاهاً .
وتعريفهم بطريق الموصولية ، لأنها أخصر طريق في استحضارهم بصفة عرفوا بها ، ولأنه يؤذن بسببية ما نالهم من العقاب ، والمراد بالغضب ظهور أثره من الخذلان ومنع العناية ، وأما نفس الغضب فهو حاصل في الحال .
وغضب الله تعالى إرادته السوء بعبده وعقابه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما .
والذلة : خضوع في النفس واستكانة من جرّاء العجز عن الدفع ، فمعنى : نيل الذلّة إياهم أنهم يصيرون مغلوبين لمن يغلبهم ، فقد يكون ذلك بتسليط العدو عليهم ، أو بسلب الشجاعة من نفوسهم . بحيث يكونون خائفين العدو ، ولو لم يسلّط عليهم ، أو ذلّة الاغتراب إذ حرمهم الله ملك الأرض المقدسة فكانوا بلا وطن طول حياتهم حتى انقرض ذلك الجيل كله ، وهذه الذلّة عقوبة دنيوية قد لا تمحوها التوبة ، فإن التوبة إنما تقتضي العفو عن عقاب التكليف ، ولا تقتضي ترك المؤاخذة بمصائب الدنيا ، لأن العقوبات الدنيوية مسببات تنشأ عن أسبابها ، فلا يلزم أن ترفعها التوبة إلا بعناية إلهية خاصة ، وهذا يشبه التفرقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف كما يؤخذ من حديث الإسراء لما أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناءَيْن أحدهما من لبن والآخر من خمر ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر لغَوَتْ أمتك ، هذا وقد يمحو الله العقوبة الدنيوية إذا رَضي عن الجاني والله ذو فضل عظيم .
والقول في الإشارة من قوله : { وكذلك } تقدم في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) ، أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجزي المفترين .
والافتراء الكذب الذي لا شبهة لكاذبه في اختلاقه ، وقد مضى في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } في سورة المائدة ( 103 ) .
والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين بوضع عقائِدَ لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة العقل أو من دلالة الوحي ، فإن موسى عليه السلام كان حذرهم من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى في قوله تعالى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم . . . } [ الأعراف : 138 140 ] الآيات الثلاث المتقدمة آنفاً ، فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضبَ والذلة ، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله ، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاّء ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهداهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة ، فأزال مهابتهم من قلوب العرب ، واستأصلهم قتلاً وأسراً ، وسلَب ديارهم ، فلما أسلم منهم من أسلموا صاروا أعزة بالإسلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.