السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ سَيَنَالُهُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُفۡتَرِينَ} (152)

قال الله تعالى :

{ إنّ الذين اتخذوا العجل } أي : إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا { سينالهم غضب } أي : عقوبة { من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } وهي خروجهم من دارهم ، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل .

فإن قيل : أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة ؟ أجيب : بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ ، وقيل : خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب .

فإن قيل : السين في قوله : سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي ؟ أجيب : بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله تعالى في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقته وهو القتل الذي أمرهم الله تعالى به بعد ذلك ، والطريق الثاني : أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم فوصف اليهود الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم باتخاذ العجل وإن كان ما فعل ذلك إلا آباؤهم لأنهم رضوا بفعلهم ولأنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب يقولون للأمم : أفعلتم كذا وكذا ؟ وإنما فعله من مضى من آبائهم . ثم حكم عليهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا كما قال تعالى في صفتهم : { ضربت عليهم الذلة والمسكنة } ( البقرة ، 61 ) { وكذلك } أي : كما جزيناهم { نجزي المفترين } أي : كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله في الآخرة والذلة في الدنيا ، قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية لأنّ المبتدع مفتر في دين الله .